في كتابه «سفر الخروج: اختراق السبات الأيديولوجي في الثقافة العربية»، يرى الباحث الجزائري أنّنا نعيش، في اللحظة الراهنة، مغامرة نقد البنى الراسخة. ويعتمد في صياغة نظريّته على أطروحات أدونيس، وإدوارد سعيد، ومحمد بنيس...
خليل صويلح
هل بقي أمام العرب فرصة للخروج من السبات العقلي والأيديولوجي، وتأسيس معرفة نقدية جديدة تتجاوز المرجعيات المستقرة واستبداد أنظمة الفكر المغلقة؟ سؤال يطرحه أحمد دلباني في «سفر الخروج: اختراق السبات الأيديولوجي في الثقافة العربية» (دار التكوين ـــــ دمشق). يذهب الباحث الجزائري إلى أنّ اللحظة الراهنة تشهد خروجاً من نعاس الثقافة العربية السائدة التي قيدتها قداسة الماضي في قمقم القراءة العقائدية. ويلفت إلى ما يعتمل في رحم الثقافة العربية الطليعية من أفكار مغايرة تجري مراجعة لنظام المعنى وهو «يتناسل انغلاقاً ومذهبيات وأشكالاً من النبذ». ويجد في أطروحات أدونيس، ومحمد أركون، وإدوارد سعيد، ومحمد بنيس، وعلي حرب، مغامرة جديّة لاختراق جدار السكونية والخروج من وصاية النظام المعرفي المغلق من خلال الحفر الأركيولوجي لتعرية البنية الأساسية لهذه الثقافة التي تضمر عنفاً إزاء حرية البحث ومغامرة الخروج من الأسيجة المغلقة التي تحتكر تاريخياً حق الكلام. وينبه إلى أن محنة الثقافة العربية لم تنته بمحاولات العلمنة والتحديث. العقل العربي ظل أسير المرجعية الدينية من جهة، والمرجعية الأيديولوجية من جهةٍ ثانية. وما أطروحات هؤلاء المفكرين إلا محاولة لتفكيك المعنى المقدس وإعادته إلى بكارته الأولى «لإقصاء الأرض الموعودة واستبدالها بأرضٍ مبتكرة».
هناك إذاً شرخ عميق في بنية الثقافة العربية المعاصرة يتمثل في انتقالها من «زمن الشمولية إلى زمن التفكك والمغايرة والفقدان التدريجي للمركز»، وتالياً انتقال المعنى من سيادة المرجع الأيديولوجي إلى «متاهة الوجود والتاريخ». هكذا راح أدونيس «المفكر» يسائل الأصول بخلخلة البديهيات والجذور وتفكيك العلاقة القائمة بين السلطة الأيديولوجية التعسفية من جهة، وبنية الفكر الماضوي المقدس من جهة ثانية. هذه البنية التي ترفض المغامرة الفكرية خارج «معيارية الماضي»، داعياً إلى نسف «الثابت» واعتبار المعنى نتاج الكتابة لا العكس. في «الثابت والمتحوّل» و«فاتحة لنهايات القرن» إلى «محاضرات الإسكندرية»، يكرر أدونيس مقولاته في مواجهة فكر «لم يطرق أبواب الممنوع ولم يستنطق المكبوت التاريخي الهائل»، ليراهن على الإبداع الشعري بوصفه متناً أصيلاً لقول «المقموع والمهمّش والمنسي».
في «حداثة السؤال»، يستكمل محمد بنيس النزوع الأدونيسي للحداثة ببيان للكتابة، يدشن فيه أسئلة جمالية تخرج من أسر الموروث لتعانق عالماً بكراً يمجّد الذات والجسد والرغبة، ويحتضن لحظة معرفية مفارِقة، تدير ظهرها «للعالم المحنّط» نحو أبجدية عذراء منفلتة من أثقال ذاكرة المعنى الشائخ، وخرائط نظام الحقيقة الواحدة، ضمن منظور نقدي مختلف يطال بنيات التحكم في الدلالة والمعنى في الفضاء التاريخي، وذلك للذهاب بعيداً في «أقاصي اللغة الأولى» لتحرير الذات من استبداد الذاكرة عبر «مقاربات متعددة لحقائق متعددة». من جهته، يقترح محمد أركون في دراساته للفكر العربي الإسلامي برنامجاً ضخماً لاجتراح آفاق نقدية تكشف النقاب عن الأنظمة المعرفية المختلفة لتدشن نزعة إنسانية كونية تنهض على النسبي والتاريخي باستثمار فتوحات العقل النقدي المعاصر لتجاوز الانغلاق العرقي المركزي للإسلام والغرب في آن. وتتمحور أطروحات أركون حول أسباب إعاقة ميلاد الحداثة في العالم العربي والإسلامي، ليجيب في كتابه «سوسيولوجيا الإخفاق» بأن الأدبيات الاستشراقية كرّست نظرة دونية للآخر انطلاقاً من خيال أنتجته المركزية الأوروبية منذ القرن الثامن عشر. هكذا عززت هذه المركزية نظرة راسخة تؤكد أن الإسلام نتاج الفكر الغيبي والنزعة القدرية والنفور من العقلانية، فيما تجاهلت عمداً الشروط الاستعمارية العنصرية التي أوصلت العالم الإسلامي إلى الانغلاق تعويضاً عن فشل أيديولوجيات الدولة الوطنية التي اعتمدت صيغاً متوحشة

الاستعمار أوصل العالم الإسلامي إلى الانغلاق
للتحديث من دون مراجعات هادئة مع الماضي والمقدس وفضاء المتخيّل الرمزي لما قبل الحداثة. بالتالي، فمشروع الأنسنة يتطلب وفق أركون «الخروج من الانغلاق الطائفي/ المذهبي، والانفتاح على آخر منجزات الحداثة الفكرية/ العقلية في مجال المساءلة الجذرية لكل أنظمة المعنى القديمة». في قراءته لفكر علي حرب، يشير أحمد دلباني إلى نموذج مختلف للفكر النقدي العربي، فهو يمثّل استراتيجية نقدية ولدت على أنقاض خراب الأيديولوجيات والفكر الشمولي في محاولة لتفكيكه من الداخل، وذلك بالاشتغال على النصوص وفضح ما تمارسه من سلطة رمزية تحجب الواقع وتنصب قلاعاً حصينة تأسر المعنى داخلها. ولعل مهمة المفكر النقدي هنا «أن يفكّر دوماً ضد أنظمة الفكر للكشف عما تمارسه من نسيان وتغييب». من ضفة أخرى، نجد في كتابات إدوارد سعيد فضحاً لتواطؤ المعرفة والخطاب ما بعد الكولونيالي مع نزعات الهيمنة والقوة العمياء، وتلك النظرة الاستعلائية والاستشراقية للثقافة الغربية المتمركزة على ذاتها. وإذا بصاحب «الاستشراق» يفتح أضابير المؤسسة الاستعمارية ويسبر الهوامش والمسكوت عنه في علاقة المركز بالأطراف، محاولاً تأسيس تاريخ جديد يتجاوز سرديات الغرب الرسمي ليرسم «قوة المعرفة في مواجهة خطاب القوة».