strong>«أنت وأنا حبر وورق» في غاليري جانين ربيزتجربة فريدة من نوعها تجمع هذه الأيّام في معرض بيروتي واحد الفنّانة والناقدة اللبنانيّة المعروفة، وابنها المشاكس الذي يقف منها على الموقع النقيض. خاض الثنائي معارك ضارية على مساحة اللوحة، قبل أن يهتديا إلى فضاء مشترك يتبادلان عبره الرسائل الشعريّة والحكايات التراجيديّة بنبرة ضاحكة غالباً

بيار أبي صعب
كان في التاسعة حين حمل رسمين، أحدهما للمصلوب والآخر للقدّيس لويس، وذهب إلى لور غريّب التي كانت تعرض في «غاليري بخعازي». «ماما، أريد أن أشارك معكِ». ابتسمت الأم وربتت كتف الشقي: «إذا صرت فنّاناً جيّداً، فسنقيم معرضاً مشتركاً عندما تكبر». اليوم تجمع «غاليري جانين ربيز» مازن كرباج وأمّه في «أنت وأنا حبر وورق». ليس معرضاً «مشتركاً»، بل موعد استثنائي بين فنّانين يفرّق بينهما كلّ شيء تقريباً، ويجمعهما شيء أساسي: هذا الولد الذي لم يكبر تماماً ـــــ لحسن الحظّ ـــــ يحبّ أمّه كثيراً!
ربّما كان مازن مديناً لأمّه بلوثة الفنّ، لكنّه يبعد عنها سنوات ضوئيّة. تأثّر الفتى بأمّه في البداية، ثم رفض فنّها، وأخذته خياراته إلى تجارب راديكاليّة وتخريبيّة، أين منها ذلك التناغم والسلم الداخلي اللذان تنضح بهما رسوم لور غريّب ومنمنماتها، ومناخاتها المسكونة بـ«سذاجة» لا تخجل من إعلان نفسها، وبحنين دائم إلى البراءة الأولى. مع الوقت، أعاد مازن اكتشاف الأعمال التي رفضها طويلاً، وتصالح معها من موقعه المغاير.
لعبة ارتجال، كما في المسرح والموسيقى، لعبة بهلوانيّة خطرة من دون شبكة نجاة
لقاؤهما الفنّي الأوّل جاء بعد عدوان تمّوز ٢٠٠٦. رسم كلّ منهما يوميات الحرب، وكانت الحصيلة معرضاً مشتركاً في «غاليري ربيز»، التقت فيه الرسوم المتناقضة، خطاباً وأسلوباً، عند موضوع الكارثة. أعمال المرحلة المشار إليها، نشرت في كتابين مختلفين ـــــ واحد لكلّ فنّان ـــــ أمّا الدفاتر المشتركة التي اشتغلا عليها خلال الفترة نفسها، فلم ترَ النور. فيها بدأت محاولتهما الأولى لتقاسم ورقة بيضاء واحدة، والتصارع فوقها بحثاً عن فضاء مشترك، عن «لغة ثالثة» تمثّلهما معاً. ثم كان البورتريه الذاتي المزدوج، لوحتهما المشتركة التي حازت العام الماضي جائزة «صالون الخريف/ متحف سرسق».
والآن يطلق الثنائي العنان لتجربته «الانصهاريّة». اشتغلا معاً على كل واحدة من اللوحات الثلاثين التي يتألف منها المعرض الحالي: أعمال بأحجام مختلفة، حبر صيني ـــــ وبعض الأكريليك، والمواد المختلفة ــــــ على كرتون أو قماش أو ورق كرافت مقوّى (إضافةً إلى مجموعة من القطع الصغيرة). «لم تكن مسألة سهلة أن نرسم لوحة واحدة ـــــ تقول لور ـــــ لقد تعاركنا طويلاً. تساءلنا كيف يحمي واحدنا عمله من الآخر. مازن كان يحوّر أفكاري، أرسم الفتاة الرقيقة فيمسخها شيطاناً...». يبتسم مازن: «أنا نزق. أرسم بسرعة وعفويّة. الضربة الأولى هي غالباً الضربة الأخيرة. أما لور، فتعمل على مهل، تملأ الفراغات بصبر. لم تكن الأمور سهلة، لا بدّ من أن أقبل اللوحة كي أضع عليها توقيعي. مع الوقت صرت أشعر بأنّها لوحتيلا جدوى من فرز بصمات مازن عن لمسات لور. لقد تداخل الأسلوبان وتمازجا بطريقة مثيرة. البنات الرقيقات يتعايشن مع المسوخ في تناغم تام... التطريز المرهف والدقيق يبدو امتداداً لضربات القلم الغليظة، التناغم والهدوء الداخلي يكملان الأشكال المفكّكة والأعضاء المبعثرة، التي أعيد تركيبها بطرق غريبة. جاءت لور بمنمنماتها لتملأ المشهد، وتبني الخلفيّة الدراميّة للوحة («ورق وحبر ١» و«٢» ـــــ ٧٧ x ٧٧ سنتم، حبر صيني على كرتون، ٢٠٠٩). وجاء مازن بطريقته في تقطيع الفضاء إلى خانات («مسبحة وجوه ١ » و٢، «أيقونات» ـــــ ١٠٠ x ٧٠ سنتم، ٢٠١٠). لكن الحدود بين المشاهد تسقط في «بيروت سراب أم حقيقة» (١٥٥ x ١٥٥ سنتم، حبر صيني على ورق كرافت مقوّى، ٢٠١٠)، حيث تختلط الحكايات والمشاهد والشعارات. والمدينة حاضرة بقوّة في كثير من أعمال المعرض.
علاقة المُشاهد باللوحات ثلاثيّة الأبعاد: نبدأ باللقطة العامة، ثم تذهب العين إلى التفاصيل، تتغلغل في المتاهات: خرز ونقوش وموتيفات وطلاسم. فضلاً عن الوجوه والشخصيات. أما المستوى الثالث الذي لا تكتمل من دونه اللوحة، فهو الكتابات المدسوسة في كل مكان ـــــ لعلّها مراسلات سريّة بين لور ومازن: «أتزيّن لأتحدّى القمر»، «دلّني على صحراء لأصبح خيالها»، «أنا الجدّة والأم والبنت»...
إنّها لعبة غريبة بين الابن وأمّه، يتواعدان فوق اللوحة. يرسل لها رسومه فتكمّلها، والعكس. أو يعملان معاً. لعبة ارتجال، كما في المسرح والموسيقى، لعبة بهلوانيّة خطرة بلا شبكة نجاة. ونصل عبر حركة دراميّة تصاعديّة إلى الذروة مع أعمال الكرافت في الغرفة الثانية. هنا كبرت الأحجام، وخفّ عدد الخانات، وازداد الخطاب حدّة وتوتّراً كما نرى من غلاظة الضربات وبخّات الحبر. كأننا بالثنائي انطلق من عقاله، بعد أشهر العمل الأولى، إلى فضاء أرحب وتواطؤ أكبر.
نشير هنا إلى ثلاثيّة «بين شمس وقمر» (١٢٠ x ٢٤٠ سنتم، حبر صيني وأكريليك على ورق كرافت مقوّى، ٢٠١٠) التي يمكن اعتبارها «مشهداً عائليّاً» على طريقة لور ومازن. في النصّ الموزّع على زوّار المعرض، يكتبان: «علينا أن نتبادل حكاياتنا. أن نمزجها. مخاطرين في كشف أنفسنا أكثر مما ينبغي (...) لا تهمّ المخاطر. نجحنا في أن نكون واحداً في الماضي. فلنحاول أن نعاود الكَرّة على الورق».

حتّى ١٠ نيسان (أبريل) ـــــ «غاليري جانين ربيز» (الروشة/ بيروت) ـــــ للاستعلام: 01/868290