قراءة في تجربة هذا الشاعر اللبناني على هامش المجموعة التي صدرت أخيراً في القاهرة، بعنوان «بين عمرٍ وآخر»، عن «الهيئة العامّة لقصور الثقافة»، وتضم باقة من قصائده القديمة والحديثة
حسين بن حمزة
ضمن سلسلة «آفاق عربية» (الهيئة العامة لقصور الثقافة ـــــ القاهرة)، صدرت لجودت فخر الدين مختارات شعرية بعنوان «بين عمرٍ وآخر». إنها دعوة إلى معاينة تجربة هذا الشاعر اللبناني منذ باكورته «أوهام ريفية» (1980) حتى ديوانه الأخير «ليس بعد» (2006). لعل الفكرة الجوهرية لـ «المختارات الشعرية» أو «الأعمال الكاملة» موجودة في إتاحة الفرصة للقارئ، وللشاعر نفسه، لأن يلمس التحولات التي طرأت على نبرته وحساسيته الشعرية. تجاوُر القصائد القديمة مع الجديدة، يُظهر لنا حجم ونوعية الممارسات اللغوية والأسلوبية التي بُذلت كي يواصل الشاعر رحلة نضوجه في الكتابة وامتلاك صوته الخاص. العنوان الذي اختاره فخر الدين يتضمن اعترافاً مسبقاً بأنه يعرض علينا تجارب متفاوتة زمنياً. القصائد أيضاً لها أعمار. الصمود أمام الزمن جزء من طموح أي شاعرٍ. نحس أننا لا نزال نقرأ للشاعر نفسه. في أعماله الأولى، نجد طبعاتٍ مبكرة لمعجمه الشعري وخياراته البلاغية. كأن الأعمال اللاحقة طبعاتٌ منقَّحة ومزيدة لتلك البدايات. القصد أن صاحب «سماوات» (2002) لم يتغير كثيراً. لا نعثر على انقلابات دراماتيكية في الخط البياني لتجربته. نُدهش حين نرى أن بذور التأمل والتأني والحكمة حضرت في قصائده الأولى، وهي صفاتٌ تعزّزت وترسخت وأصبحت جزءاً من حساسية هذا الشاعر الذي يقف على حدة بين أقرانه من كتَّاب التفعيلة. إذْ يجمع بين إخلاصه للوزن واستثماره لإمكانات النثر. في قصيدة «شمس الخريف» من ديوانه الأول، نقرأ: «تلسعُ في حقدٍ/ ويُغيِّبها الغيم/ فترجعُ كالمكدود لتسكب غيظاً وهمياً/ من يفهم هذا المرضَ الشمسيَّ سوى الأشجار/ فتنزعُ حلّتها الخضراءَ/ وتبكي عاريةً».
هكذا، نتأكد أن فخر الدين مالَ مبكراً إلى نبرةٍ قائمة على التأمل. حضور الطبيعة والفضاءات المفتوحة وتقليب المشهديات والأفكار والموضوعات على وجوهٍ كثيرة... كل ذلك يمنح التأمل نفوذاً إضافياً. التأمل يستدعي الفلسفة، والفلسفة تستدعي معجماً، ولغة ناجية من الضجة والدراما العاطفية المائعة. لنقرأ هذا المقطع من ديوان «منارة للغريق» (1996): «إنه القلبُ إذن/ عصفورُ هذا الجسم/ في حفرته يعبثُ/ في حفرته يخبطُ/ يبقى طائراً في قفص الصدر بلا أجنحةٍ/ مرتطماً فيه بأصداءٍ له/ محتبساً بعضَ اختناقاتٍ/ خجولاً مثل أقوالٍ خجولةْ/ ونبيلاً مثل أسرارٍ نبيلة». هناك نظمٌ صارمٌ في السطور السابقة، ولكن ذلك لا يشوِّش المعنى الذي يصل إلى القارئ بلا عوائق.
فكرة النظم تفتح الباب للحديث عن ميل جودت فخر الدين إلى ربط تجربته بأسلاف قدامى. اختار صاحب «للرؤية وقت» (1985) أن يستقبل الحداثة على محمل التراث الشعري العربي. لم يقطع صلته مع الوزن والإيقاع. كتب قصيدة التفعيلة كما اقترحها الرواد ومن جاء بعدهم، ولكنه لم يتقدم أبعد من ذلك. «يا صاحبيَّ انظرا»، يقول في «منارة للغريق» المستهلَّة ببيتين لأبي تمام. في قصيدة «بلاد»، المستهلَّة ببيتٍ للحارث بن حلزة، نقرأ شعراً أقرب إلى القصيدة العمودية. في «الشرفة المائلة»، نجد استهلالاً آخر لدعبل الخزاعي. ثم يحضر المعرّي في مقطع كامل

مذاق كلاسيكي ممزوج بمناخات السيّاب والبيّاتي

بعنوان «استبداد»: «أستبدُّ بنفسي/ فأُلزمني ـــــ كالمعري ـــــ بما لا يلزمُ/ أُبصر وَجْدي، فأخلو به، ثم أكتبه/ ويُشرق حظي، فأحجبُهُ/ وتحينُ مواعيد لهوي، فأُرجئها/ وتداهمني الأمنياتُ، يراودني نزقي كلَّ حينٍ/ فأُوقظُ خوفي/ ألوذُ بظني/ وليس هنالك ما يستحق مزاجي وشاكلتي/ وها أنا أمضي طليقاً بوزني وقافيتي».
كأن الشاعر يُفصح هنا عن جزءٍ من أسراره وممارساته في الكتابة. لا يخفي فخر الدين طموحه في أن يتحدّر من سلالة شعرية تبدأ من العصر الجاهلي وتتصل بمغامرة رواد التفعيلة. ثمة مذاق كلاسيكي ممزوج بمناخات السيّاب والبيّاتي وعبد الصبور وحجازي وغيرهم. استدرج الشاعر علاقات النثر إلى القصيدة، ولكن بشروط الإيقاع.
النثر، إضافةً إلى التأمل والبطء والدقة، أسهم في جعل الإيقاع مرناً وخفيضاً. جزءٌ من خفوت شعر فخر الدين وحكمته عائد إلى استثمار النثر. لكن المصدر الأساس لهذه الخصوصية متأتٍّ من رغبة الشاعر في إنجاز نصوصٍ متخلِّصة من الصوت العالي والموضوعات الصاخبة. الأرجح أن هذه الممارسة نجَّت شعر فخر الدين من الوقوع في أسر الروتين الذي انتهت إليه تجارب تفعيلية كثيرة.