دمشق | سفينة نوح السوري تائهة في بحر الظلمات، تحرسها غيمة من الغربان. هؤلاء ليسوا أحفاد الفينيقيين كي يكتشفوا قرطاجة أخرى، أو كي يصدّروا لون الأرجوان إلى العالم. الأرجوان القاني يُغرق صدورهم. هاربون من الجحيم فقط. لا قوارب نجاة في انتظارهم. قواربهم مثقوبة في الأصل. أوديسة عصية على التدوين، حتى بالنسبة إلى هوميروس نفسه. أوديسة عالقة بين صخور الخرائط، على هيئة جثث مؤجلة. جثث مجهولة الأسماء، وصرخات استغاثة لم ينصت إليها أحد.
ليس لدى السوري من يكاتبه. لديه من يهجّره، لديه من يذلّه، لديه من يذبحه. لقد أضاع البوصلة تماماً، في نسخة حديثة من «السفر برلك». هذه المرّة اسمها «السفر بحرلك». قبل قرن، كانت الأقدار قد قادت أسلافهم إلى سفينة «تايتانيك» (1912)، أعظم سفينة في العالم للإبحار إلى أرض الأحلام، حجزوا أماكنهم في الدرجة الثالثة، وأُغلقت عليهم الأبواب، كما لو أنهم في حظيرة ماشية. قرويون هاربون من مجاعة «الرجل المريض» وفزع «النفير العام». هربوا من حرب قناة السويس، فماتوا في مياهٍ أخرى بعيدة. لم يسجّل أحد أسماء الموتى السوريين في قاع «تايتانيك». فقط وثّقوا الحشرجات الأخيرة لموتى بلا لغة، في شهادات عابرة أطاحها النسيان. ميديا اليوم تحتفل بالموت السوري ببثّ صورٍ مفزعة، تمحو صوراً مفزعة من وليمة الأمس، في متوالية بصرية باذخة بوصفها فرجة كونيّة. فرجة لم تنقذ الضحايا، ولم توقف أسباب الكارثة. استغاثات غرقى بلا أثمان، أو أكفان. مقبرة الماء لا تحتاج إلى توثيق تاريخ الوفاة على قبر من دون شاهدة. من جهتنا، لا يمكننا وضع الورود فوق حافةٍ لا مرئية، أو فوق وليمة عظام عالقة بين أنياب الأسماك. وماذا نفعل لرجل عالق بين الأسلاك، كان قد فقد نصف عائلته في القصف، ونصفها الآخر تحت الماء؟ وكيف سيبدأ حياةً جديدة، في مدنٍ لا يعرفها، وبلا ألبوم صور قديم، هل عليه أن يصدّق تقنية «الفوتوشوب» كي يستعيد صور المفقودين، أم يكتفي برفع شارة النصر في الصورة، علامة على النجاة؟ لا عزاء لموتى الموت العادي تحت القصف، أو برصاصة قنّاص، أو بانفجارٍ عبثي، أو بحادثة اغتصاب شرعي.

كيف سيلعب جان بودريار النرد مع ابن تيمية، تحت شجرة مشمش في غوطة دمشق؟
المجد للموت البحري، فهو أكثر إثارة لغريزة الميديا التي استهلكت ما يكفي من أنواع الموت السوري، في مطحنة الصورة. سلاح فتّاك تقابله صورة فتّاكة. هكذا نتفوّق كسوريين بدرجات على مختلف مذابح القرون الفائتة، ألسنا في جحيم الألفية الثالثة، وموتى ما بعد الحداثة؟ لكن، مهلاً، كيف تستقيم مفردات «مفرمة» العولمة، مع معجم الطوائف والمذاهب والفتاوى، وكيف سيلعب جان بودريار النرد مع ابن تيمية، تحت شجرة مشمش في غوطة دمشق، وماذا نفعل بصورة إدوارد سعيد القديمة، وهو يلقي حجارته نحو الأسلاك الشائكة الإسرائيلية؟ هناك من يطالب بحجارة مضادة كي تستوي الصورة مع الارتدادات الراهنة، ولعبة الخرائط الجديدة، وهناك من يندب موتى القرون الفائتة تحت بند الثأر لدم القتيل بسيوف الكترونية، وهناك من يحصي حجم جعالته من دماء الخصمين المتحاربين في بازار الربيع الأسود. ثم هل من اخترع الأسلحة المتطوّرة، هو نفسه من اخترع السيوف والبلطات واللحى والرايات السود ومركبات الدفع الرباعي، في المصنع نفسه؟ كان على خبراء الحروب الجديدة، اختراع جمل ليزري يليق بكنوز هذه الصحراء، وإبادة تاريخها الحضاري على مذبح التقنيّة التي» تبصق روثاً وتزمجر قلقاً مخزوناً منذ قرون» وفقاً لما يقوله بودريار. على هذا المنوال، تعمل «فوتوغرافيا الاختفاء» فتحضر صورة ما بغزارة، وتختفي أخرى، تبعاً للمتطلبات الرمزية للحظة. صورة الطفل السوري الغريق على الشاطئ، خضعت عملياً لتبدّلات بصرية مختلفة كي تأخذ وضعيتها النهائية، قبل البث، فيما أُهملت لمقاصد أخرى، صورة الشاحنة المحمّلة بالموتى، كما لو أنهم مجرد طرد مثلّج من الدجاج. وفي المقابل لم ينصت أحد إلى ما روته الفتاة الإيزيدية عن حادثة اغتصابها، في محو متعمّد لأهمية الشريط، والأمر نفسه، بالنسبة إلى صورة حارس الآثار في تدمر، خالد الأسعد، الصورة التي لا تقل انتهاكاً ووحشيةً وأذىً، عن الصورة الأولى، فحرّاس الهمجية هم الخندق المكمّل لحرّاس الميديا، وخبراء «الفوتوشوب» في غرف عمليات المحو والتركيب والتفكيك. يروي العقيد أرتشيبالد غراسي، وهو أحد الناجين، من غرق سفينة «تايتانيك» بأن الأصوات والصرخات والاستغاثات «كانت تطفو على سطح المياه الداكنة من دون انقطاع طوال الساعة التي تلت الحادثة، لكنها راحت تتخامد مع مرور الوقت حتى تلاشت نهائياً». أما القارب المطاطي المثقوب لنوح السوري، فما زال يستغيث، ذلك أنّ غربان الميديا لم ينهوا طقوس الفرجة بعد، وإيثاكا السورية بعيدة، وعصيّة على التعيين، ولن ترويها كيت وينسلت في نسخةٍ رومانسية أخرى.
هناك من يغرق الآن، في أوقيانوس الدم السوري...