ينبغي أن نعتذر بشدّة من مطربي الثمانينات، مثل عصمت رشيد (كفك يا جميل كفك)، ومروان حسام الدين (رفي بجناحك رفي)، ونعيم حمدي (طعميتك بايدي عسل وجوز)، وعيسى مسوح (أكتر مافيني عملتو حتى إرضيك) وحتى «مطرب العسكر» إبراهيم صقر (صدرك نار حمرا)، كما ينبغي شكر الأشقاء اللبنانيين مثل سمير يزبك (يا مهندس عمرلي دار)، والثنائي مروان محفوظ وأميرة (غالي يا وطني الغالي)، وعلي حليحل، في حقل الدبكة. اليوم، لفرط الاحتضار، صرنا ننظر بحنين إلى أغاني هؤلاء، بوصفها أغاني كلاسيكية وراقية، بعدما أشبعناها تهكماً واحتجاجاً حينذاك.
ذلك أن زحف مطربي ثقافة الملاهي يهيمن على ما عداه. ها هي سارية السوّاس صاحبة الأغنية المشهورة «وين مبارح سهرانه يا بنت الكلب»، تتجه إلى الغناء الوطني بكامل حنجرتها، ليتبعها آخرون على النهج نفسه، في تدمير محكم للذائقة. المشكلة ليست وليدة الظرف الراهن. في ثمانينيات القرن المنصرم وما بعدها، انتقل مطربو الملاهي الليلية من مطاعم الضواحي إلى ساحة الأمويين، بكامل عتادهم. وإذا بالأغاني المبتذلة تحتل شاشة التلفزيون الرسمي. منذ تلك الانعطافة الحاسمة، احتضرت الأغنية السورية وتوارى شعراء العامية لمصلحة خلائط من اللغو العاطفي والدبكة وصرخة «عاشو». المفردة الأخيرة مستوردة من مزاج سياحي خليجي، تصاحبه صينية «المندي»، أو «الكبسة».

طوال فترة الحرب الراهنة، لم تبزغ أغنية واحدة عميقة ومؤثرة

لا فرق واضحاً في مستوى الأغاني السورية التي يبثها سائق ميكروباص، أو سيارة غامضة، عمّا تبثه الشاشات الرسمية والإذاعات الخاصة. أغنيات تخاطب الغريزة قبل الوجدان، يمكن استخدامها في الأعراس، أو حبّ الوطن، فالاحتضار واحد، والتحريض التعبوي واحد، حتى أن أحدهم لفرط حماسته الوطنية لم يتردد في لطش اللحن المصري «تسلم الأيادي» وتركيب كلمات سورية عليه، ليبث عشرات المرّات يومياً. كان أحد مطربي الأرياف الذي بدأ بائع جبنة لموظفي الإذاعة والتلفزيون، قد تمكّن من إدراج اسمه كمطرب في قوائم الإذاعة، ثم صار يشكو شعبة التنسيق بأنها تهمل بث أغانيه، إلى أن صرخ في وجهه أحدهم بقوله: «أغانيك تُبث من إذاعتنا أكثر من أغاني محمد عبد الوهاب، والفضل ليس لحنجرتك الذهبية، بل لتنكة الجبنة».
مات هذا المطرب المغمور منذ سنوات، لكنه خلّف سلالة من الطراز نفسه، صادرت كل ما عداها، وانكفأت أصوات كثيرة في الظّل، إلى أن غابت الأغنية السورية تقريباً، في غياب شعراء العامية. طوال فترة الحرب الراهنة، لم تبزغ أغنية سورية عميقة ومؤثرة، ما جعل بعض المحطات تلجأ إلى أرشيفها القديم لترميم الفراغ الفادح في الأغاني الوطنية، باستعادة بعض أغاني السبعينيات. هكذا انطفأ العصر الذهبي للأغنية السورية بانطفاء أصوات فهد بلان، ومصطفى نصري، ومها الجابري، ودلال الشمالي، وفؤاد غازي، ودياب مشهور، وآخرين، لطالما عبّروا عن الهوية المحليّة لهذه الأغنية بتنويعاتها البيئية وموروثها الأصيل.
لكن فكرة «مطرب بصفة موظف» أطاحت بالفرادة والمبادرة والنوع، حتى أن نقابة الفنانين كانت تفرض هؤلاء على أصحاب الملاهي الليلية بوصفهم نمرة محليّة، وها نحن نقطف الثمار المعطوبة اليوم. لكن أين شعر العامية السورية؟ ولماذا لم يظهر شاعر غنائي بقامة صلاح جاهين، أو الأبنودي، أوسيد حجاب؟ ببساطة: من يصنع من بائع الجبنة مطرباً (مع كامل الاحترام لهذه المهنة)، لن يستطيع أن يكسب معركة.