علاء اليوسفييعود أحمد الواصل إلى دراسة الأنثروبولوجيا الثقافية للجزيرة العربية من باب الغناء والموسيقى. في كتابه «تغني الأرض» («دار الانتشار العربي» في بيروت و«النادي الأدبي» في حائل) يضيف الشاعر والباحث السعودي كتاباً ثالثاً إلى مشروعه الأرشيفي عن الغناء في الجزيرة العربية. بعد «سحارة الخليج» و«الرماد والموسيقى»، ها هو يربط في كتابه الجديد، الربع الأخير من القرن العشرين بما بدأه سابقاً من أبحاث تشمل بدايات هذا القرن.
أراد صاحب رواية «سورة الرياض» أن يكون كتابه الجديد أرشيفاً للنهضة وذاكرة للحداثة. لكنّه مع ذلك يضيء على مناطق معتمة من الجزيرة العربية، حيث تحتل السعودية الحيّز الأكبر منها، لا بوصفها مركزاً للتشدد الديني، بل مورداً أصيلاً للغناء وواحة من الفنون الأدائية الموروثة والمتنوعة.
يستند الكتاب إلى أربعة نماذج من المغنين الخليجيين، يفرد لكل منهم فصلاً، هم السعودي طلال مداح الذي يمثل حداثة أغنية الستينيات والسبعينيات، والكويتية العراقية الأصل رباب التي تمثّل تحوّلاً في غناء المرأة على مستوى الخليج وقد استوعبت أغنيتها أزمة الغربة والمنفى والازدواج الجنسي! والبحريني خالد الشيخ الذي بدأ في خط الالتزام السياسي، إضافة إلى البحريني عارف الزياني الذي توقف بعد تجربة غنائية لافتة. اختيار هؤلاء حصراً، جاء لأنّ تجاربهم تستقرئ حقبة تجلّت فيها ثقافات أجيال ومجتمعات على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأيديولوجي.
مشروع أرشيفي عن الغناء في الجزيرة، وخصوصاً السعودية
وإذ يكرّس صاحب «الصوت والمعنى» فصلاً للغناء الأنثوي في الجزيرة العربية، فإنه يفاجئك حين يكشف عن مدى تجذّر هذا الصوت في البادية وفي أطرافها الحضرية، رغم طابع المحافظة الذي تتّسم به الجزيرة العربية، ولا سيما السعودية التي التصقت بصورة التشدد الديني. قبل هذا التشدد أو تسييس الديني في النموذج الوهّابي، عُرفت شاعرات بدويات كن يرتجلن أشعارهن... وبعض الأغنيات ما زالت تستعاد نصوصها الشعرية بألحان جديدة لشاعرات شهيرات مثل عليا بنت حميان ونورة الهوشان ونورة الهطلاني. كذلك فإنّ نساء البدو في نجد والحجاز كنّ يشاركن في الرقص في مناسبات اجتماعية عامة، ثم انحسر هذا المظهر تماماً مع نشوء الدولة السعودية الحديثة.
يخصّص صاحب ديوان «أهوال الصحو» فصلاً للحديث عن فن السامري، وهو أحد ألوان الغناء المنتشرة في مناطق الجزيرة العربية. يغوص الباحث في تاريخ هذا اللون الذي يعود ـــــ بحسب الدراسة ـــــ إلى العهد البابلي، منتقلاً من المعابد البابلية مروراً بتلك اليهودية والمسيحية قبل تحوّله إلى لون غنائي دنيوي فردي وجماعي. وفن السامري هو غناء سمر ومناسبات احتفالية، يحوي فن العرضة، وهي رقصة حرب ما زالت تؤدى وتُستحضر عبرها البطولات البدوية.
ولا يزال هذا الفن معاصراً بعدما أعيد تأهيله كموروث ليتآلف مع متطلبات الأغنية الجديدة منذ الستينيات، معبّراً عن هوية وتاريخ أهل المنطقة. لهذا، يفرد له الواصل مساحة في كتابه، على عكس فنون موروثة أخرى اندثرت بسبب ارتباط نشأتها باقتصادات العمل الريفي أو الرعوي وبمهن كالبناء والصيد... ليحل مكانها نموذج الأغنية الجديدة ذات العناصر المركبة المسيطرة على الغناء العربي.