في كتابه «معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا» (دار الساقي)، يتوقّف الباحث السوري هاشم صالح عند مسألة أساسيّة، هي انحصار معاركنا في إطار المُحرّم والمُحلّل، فيما الغرب يناقش قضايا ما بعد الحداثة؟
ريتا فرج
«إنّ عصرنا هو عصر النقد الذي ينبغي أن يخضع له كل شيء بما فيه العقائد الدينية ذاتها»، كتب إيمانويل كانط. عميد العقلانيين الأوروبيين كان يصوّب باتجاه الأصولية المسيحية في القرون الوسطى. أصوليّة قارعها مع نظرائه التنويريين من سبينوزا وفولتير وديدرو إلى هيغل وسان سيمون وهوغو. في كتابه «معارك التنويريين والأصوليين في أوروبا» (دار الساقي) يسأل هاشم صالح عما حثّ أوروبا على الفصل بين الدين والعلم، في مقابل تأخّر الانفجار الفكري في الحاضرة العربية الإسلامية.
في هذا الإطار، يعرض الكاتب السوري أبرز الأطروحات الفرنسية الصادرة حديثاً عن التنوير. يعود صاحب «الانسداد التاريخي، لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟» إلى الصراع الذي دار أواخر القرن السابع عشر بين التنويريين والأصوليين، معتمداً منهجية تاريخ الأصوليات المقارنة. يقرأ أوروبا ما بعد عصر النهضة، مقارناً بين اللاهوت المسيحي المعاصر الذي صار يناطح العلم بالعلم، وبين حراس العقيدة في الإسلام.
يجري الباحث السوري المقيم في باريس، مقارنةً بين عالم اللاهوت الألماني هانز كونغ، والشيخ يوسف القرضاوي. ويرى أنّ هذا الأخير «لا يزال غارقاً في فقه القرون الوسطى» بينما حلت الفلسفة وعلومها مكان الأصولية المسيحية في أوروبا.
مع تزفيتان تودوروف، يستهل صالح تفنيده للمعارك التنويرية. المفكر الفرنسي البلغاري الأصل، تساءل عما بقي لنا بعد نهاية الايديولوجيات الطوباوية من ماركسية وشيوعية ورأسمالية؟ وخلص إلى أن فلسفة الأنوار وحدها قادرة على تقديم الحلول. يشير الكاتب هنا إلى أنّ بذور العقلانية موجودة عند المفكرين المسلمين الأحرار أمثال الفارابي، وابن رشد، والمعري. لكن هؤلاء اصطدموا بالمسلمات والموروثات، وتراجعوا أمام الإرث الديني أو المجتمعي.
السؤال المضمر هو كيف يتجذّر مشروع التنوير في أرض الإسلام؟
يحيلنا صلاح أيضاً إلى «الأنوار التي تعمي» لريجيس دوبريه. في عمله هذا، أدان المؤرخ الفرنسي القدسية التي يصبغها الفرنسيون على عصر الأنوار، ما أفقد أوروبا عقلها esprit. باتت القارّة العجوز اليوم لا ترى العالم إلاّ من مرآتها، إلى حدّ أن أي رجل دين «لا يتجرأ على فتح فمه على شاشة التلفزيون الفرنسي للدفاع عن مواقفه». إلا أنّ دوبريه صدم لدى زيارته مصر بعد مرور ثلاثة عقود على زيارته الأولى عام 1976. فوجئ بزيادة المحجبات، وباستهلال المثقفين خطابهم بالبسملة بعدما كانوا يطرحون شعارات الماركسية. هنا، يسأل صالح إن كان دوبريه يتناقض مع ذاته؟ ويجيب «الساحة المصرية بحاجة إلى مزيد من التنوير، والساحة الفرنسية بحاجة إلى التخفيف من طغيان التنوير». دعوة دوبريه الأساسيّة تبقى في وجوب تدريس الظاهرة الدينية كإحدى الظواهر التي أثرت في التاريخ. دعوة وجهها أيضاً محمد أركون الذي تولّى صالح تعريب معظم كتبه.
يعود هاشم صالح أيضاً إلى فولتير الذي دعا إلى نشر الفكر العقلاني، وحسر نفوذ الكنيسة، لكنّ ثورته بقيت فكرية لا تمس المؤسسات الراسخة. وإذا قورن الفيلسوف الفرنسي بروّاد التيار المادي، لبدا أقل حماسة، «فالعقل عندهم قادر وحده على إنقاذ المجتمع من الفوضى، ولا مبرر بعد الآن للإيمان بوجود إله ينظم الكون ويحميه».
معارك التنويريين والأصوليين عشية دخول أوروبا عصر الأنوار، محور أساسي في كتاب صالح، إذ يعرض مسيرة العقلانيين الأوروبيين الذين خاضوا حربهم العلمية ضد الفلسفة الأرسطوطاليسية «المتزاوجة» مع العقيدة اللاهوتية، كما أسّس لها توما الأكويني. وطبعاً، انتصار مشروع التنوير على المدّ الأصولي الكنسي آنذاك، مرّ بحقبات مختلفة، بدأت مع ديكارت أواسط القرن السادس عشر، تزامناً مع الإشعاع الحضاري في ديار الإسلام. بطل الفكر، كما وصفه هيغل، دشن أوّل انتصاراته على المدرسة الارسطوطاليسية وطاولته فتاوى الزندقة، ووضعت كتبه على لائحة المحرمات. لا شك في أنّ صاحب «التأملات الماورائية» انطلق من منهجية أن الشك يطال كل الأشياء ليطرح مقولته الشهيرة «أنا أفكر إذاً أنا موجود».
«نقد العقل المحض» لكانط عملَ على فصل اللاهوت المسيحي عن الفلسفة. وثوريته التي حققت تجلياتها بعد وفاته بمئتي عام، أحدثت صدمة معرفية مع الموروث الديني، فأَخضع الدين للأخلاق وليس العكس. وصف المسيح بأنه أستاذ في الأخلاق، وليس أكثر من إنسان قريب من الله. واعترض على «الخطيئة الأصلية»، معتبراً أن المعجزات الواردة في الانجيل مجرد حكايات رمزية، مناقضة لقانون العقل والسببية. فهل يتجرأ الإمام الغزالي على مجادلة فيلسوف التنوير الأكبر كما يصفه صالح؟
لقد أفضت المعارك بين التنويريين والدوغمائيين في الدائرة الإسلامية، إلى غلبة ورثة الغزالي. المحنة التي عاشها ابن رشد اكتملت مع العقلانيين العرب أمثال طه حسين وعلي عبد الرازق ونصر حامد أبو زيد، وإن في أزمنة متأخرة. أمام سطوة الاتجاه الديني الراديكالي، يسأل هاشم صالح: متى سيقع الانفجار الفكري عندنا؟ ألم يحن زمن تصالح الحداثة مع الدين؟ الوقائع تشي بغلبة الاتجاه الظلامي، فالمجتمعات العربية تسير عكس التيار. وفيما يناقش الغرب نظريات ما بعد الحداثة، تنحصر معركة بعض المسلمين في إطار المُحرّم والمُحلّل.