في «ألوان أخرى» الذي عرّبته سحر توفيق أخيراً عن «دار الشروق» (القاهرة)، يقدّم صاحب «نوبل» التركي ملاحظات وخواطر وتأملات في الحياة والكتابة
محمد خير
«ليس الإلهام هو سر الكاتب ـــــ فليس من الواضح أبداً من أين يأتي الإلهام ـــــ إنه العناد، والصبر. هناك مثل تركي جميل يقول: يمكنك أن تحفر بئراً بإبرة. ويبدو لي أنّ قائل هذا المثل كان يقصد الكتّاب». عكس ما قد يوحي به المقتطف السابق، فإن أورهان باموق لا يقدم في كتابه «ألوان أخرى» دروساً للكتّاب أو القرّاء، بقدر ما يقدم مجموعة «أفكار وصور وشذرات من الحياة».
الكتاب الذي عرّبته سحر توفيق وصدر أخيراً عن «دار الشروق» (القاهرة) يقدّم «اللحظات الغريبة، ومشاهد الحياة اليومية التي أردت مشاركتها مع الآخرين...». لسنا هنا بصدد الكتاب الذي أصدره الروائي التركي تحت الاسم نفسه في إسطنبول عام 1999. الكتاب الحاليّ بُني على هيكل السابق، واتخذ شكل السرد المتصل. الأفكار والشذرات تتوالى هنا ـــــ بعد تشذيبها ـــــ عن تأملات باموق ورحلاته وذكرياته وقراءاته، كما يضم الكتاب قصة وحيدة تطالعنا قبل النهاية «أن تطل من النافذة». أما الختام، فهو «حقيبة أبي»، عنوان الكلمة التي ألقاها باموق لدى تسلمه جائزة «نوبل» الآداب عام 2006.
ليس السرد الانسيابي فقط ما يميّز «ألوان أخرى». إنها نبرة صدق خفيفة الظل، يتحدث عن الكاتب الذي يكاد يكون نصف ميت، يعيش على قراءة الأدب الجيد كما يعيش مريض السكريّ على جرعة الدواء اليومية. حياته غرفة ونافذة تطل على منظر أو مجرد جدار. مع ذلك، فالعزلة ليست إلا السكن الذي لا يغني عن الحياة «لكي أكتب جيداً، لا بد أولاً أن أشعر بالملل حتى الجنون، ولكي أشعر بالملل حتى الجنون، لا بد أن أدخل في الحياة». مع ذلك، فإن لصاحب «ثلج» شروطاً مغايرة في المؤلّفين الذين يقرأ: «أفضّل أن يكون الكاتب ميتاً، لأنه في هذه الحالة لن تشوب إعجابي سحابة من الغيرة، وكلما أصبحت أكبر سناً، أصبحت أكثر اقتناعاً بأن أفضل الكتب هي لمؤلفين موتى، حتى لو لم يكونوا قد ماتوا بعد»!
في فصول الكتاب الحميم، يتجاور الأهل والأصدقاء وأيام الضحك والعناء. يعود صاحب «اسمي أحمر» كثيراً إلى أبيه الكاتب الذي لم يحتمل حياة الكتاب، في خيط واحد يصل بين طفولته ورحيل أبيه «أخبروني أنّ أبي مات، ومع أول طعنة من الألم جاءت صورة من طفولتي: ساقا أبي النحيفتان في الشورت».
يرسم علاقته بكتبه في ما يشبه الدراما
أما عن الضحك، فقد يكون انعكاساً للتشفّي «كنا أنا وصديقي المصوّر التشكيلي نضحك حول بعض الأغنياء الذين نعرفهم ممّن واجهوا نكسة بانهيار البنوك التي كانوا يضعون أموالهم فيها. ولماذا كنا نضحك؟ لأننا اكتشفنا أنهم ليسوا بالحذق والدهاء، ولا بالذكاء الذي كانوا يدّعونه لأنفسهم». تنساب الشذرات مشكِّلة عالماً شخصياً أليفاً وقابلاً للمشاركة أيضاً، فهو مثلاً يتوقف عن التدخين، وتمر الأيام فيعتقد أنه تعوّد الإقلاع، ثم يصحّح «لا لم أتوقف عن الشعور بالعوز، لم أتوقف عن الشعور كأنني انفصلت عن كلّي، ولكني فقط اعتدت الآن على هذا الإحساس، قبلت الواقع المرير». هو ما زال يجابه أحلام يقظة يدخّن فيها. ذلك أن الغرض الأساسي من السجائر في حياته كان «إبطاء تجربة السرور والألم، الرغبة والهزيمة، الحزن والفرح، الحاضر والمستقبل (...) وعندما تتوارى هذه الإمكانات، يشعر المرء تقريباً بأنه عار، أعزل وعاجز».
في باب «الكتب والقراءة»، يرسم باموق علاقته بكتبه في ما يشبه الدراما. يحكي عن القرار الأصعب لكل مثقف وهو التخلص من بعض الكتب في مكتبته، عندما يسير «مثل سلطان بين حشد من العبيد، يختار منهم الأفراد الذين سيجري جلدهم، مثل رأسمالي يشير إلى الخدم الذين سيجري التخلص منهم». القراءة الجيدة بالنسبة إلى باموق، ليست «تمرير العين والعقل ببطء وبحرص على النص، بل أن يغرق المرء نفسه تماماً في روح النص. وهذا هو السبب في أننا نقع في حب كتب قليلة فقط طوال حياتنا».
وليس غريباً أن تكون «ألف ليلة وليلة» أحد تلك الكتب التي وقع في أسرها. وقد استطاع أخيراً عند القراءة الثالثة أن يقدّر ألف ليلة «كعمل فني». لقد أدرك بمرور السنوات أن الحياة ـــــ تماماً كـ«ألف ليلة» ـــــ تتكوّن من الخيانة والخديعة.
لكن: لمن يكتب باموق؟ كل مَن طرح هذا السؤال على الروائي التركي، لم يكن يبحث عن الإجابة بل عمّا وراءها. بل إنّ والدة أورهان لمّا سألته السؤال ذاته في أوائل السبعينيات، «كان صوتها الحزين والمهتم يوضح أنها تسأل بصدق: كيف تخطّط لإعالة نفسك؟»