طفلة في الخامسة والثمانين تقف على حدة فوق خريطة الإبداع العربي، جامعةً بين الرسم والشعر والمسرح والرواية، بين باريس وسان فرانسيسكو و... بيروت التي تحبّها كعشيقة عتيقة
سناء الخوري
يكفي أن تسألها عن الحبّ، إذ تضيع منك الأسئلة في حضرة هذه المرأة الاستثنائيّة التي تسحرك بعفويّتها القاطعة، وبساطتها الآسرة. مرّةً، قرأنا لها أنّ الحبّ «موجة قوّة مطلقة، تخلق إحساساً بالغرق، وحاجة يائسة لتجميد الحبيب في الزمان والمكان. إنّه مسألة مطلق».
في الخامسة والثمانين، يبدو أنّ الحبّ صار حكمة إيتل عدنان الوحيدة. «أن نخرج من ذاتنا، ونخلق مع الآخر لحظات خارقة»، تبادرك. «الحب هو السبب الحقيقي للوجود». تضيء كلماتها كلّ الزوايا في أعماقك، بعد ساعتين من الحكي في المدن والشعر والسياسة والحروب والرسم. تودِّعك الكاتبة والشاعرة والرسامة اللبنانية شرط أن تعدها بقراءة كتابها «عن المدن والنساء». يبقى أن تعطيك نسخة موقّعة من قصيدة «جنين» التي خطّها الجزائري الشهير رشيد قريشي لتضيء السيّدة نهارك. حين تخرج من بيتها لملاقاة بيروت، تشعر بحسرة لأنّك لم تعرف المدينة كما عرفتها إيتل عدنان. عرفت صاحبة «سفر القيامة العربي» بيروت قبل أن تصبح عاصمة لبنان المستقل. عرفتها أيضاً بعد الاستقلال وغادرتها إلى باريس ثم كاليفورنيا، وعادت إليها في السبعينيّات الذهبيّة، لتشهد انحدارها التدريجي نحو جنون الحرب الأهليّة. عرفتها خلال الحرب وبعدها، وتعرفها اليوم. علاقة صاحبة «الست ماري روز» ببيروت أشبه بعلاقة عشيقتين شاختا معاً، وما زالت الواحدة منهما قادرة على النظر، بامتلاء، في وجه الأخرى الذي دمغته السنون والمنافي.
ارتبط شعرها بثورات وحروب كثيرة، من الفيتنام والجزائر إلى لبنان وفلسطين والعراق
تسألها عن احتفاء بيروت بها ضمن برنامج «مسرح المدينة» الذي ينطلق اليوم ويستمرّ حتّى الأحد: «أن يتأخر تكريمنا أمر جيّد. في هذه الحالة، لا نبدو مُدَّعين». هكذا تتكلّم من راكمت تجربة غنية ومتشعّبة، بين ثلاث قارات، في الشعر والتشكيل والرواية والمسرح، فضلاً عن الصحافة وفن المراسلة والنضال السياسي. منشغلة هي الآن بكتابة قصيدة عن الضباب، أو «الغطيطة» كما تقول بالعاميّة اللبنانيّة. كتاب الضباب هو الجزء الثالث من مشروع شعري حمل جزؤه الأوّل عنوان «الفصول»، فيما حمل الثاني عنوان «البحر»، وقد أهدته لصديقتها ورفيقة دربها سيمون فتّال.
عن البحر أيضاً، كتبت أولى قصائدها حين كانت في العشرين. يومها، اهتدت إلى الشعر بالفطرة. «أحببته، ولا يمكن أن نفسّر لماذا يحبّ الناس». الشعر والكتابة بالنسبة إليها «نقطة لقاء بين الفكر والعالم»، مشغل للأفكار المجرّدة، تماماً كالرسم الذي اكتشفته لاحقاً. تركت بيروت لتدرس الفلسفة في «السوربون» مطلع الأربعينيات. في باريس، التقت بأوائل الطلاب الأميركيين في فرنسا، وقرّرت أن تعبر معهم الأطلسي. هناك في كاليفورنيا واصلت دراساتها وعلّمت الفلسفة وتاريخ الفنّ، واهتدت عبر التدريس إلى رغبة دفينة بخلق شيء من الألوان. لوحاتها كشِعرها: فطرة وجهد وسحر.
حين اندلعت الحرب في لبنان، كانت تعمل في الصحافة الثقافيّة في مجلّة «الصفى» ثمّ «لوريان». كانت قد عادت حينذاك من الولايات المتحدة بعد سنوات في تدريس الفلسفة. قبل تلك العودة التي كانت تعتقدها نهائيّة، كانت تزور لبنان من أجل مهرجان بعلبك. لكن، «للأسف، خلف هذا العيد، كانت هناك احتفالات دامية تتحضّر». تستعيد ذلك المنعطف القاسي اليوم: «كنت أرى الناس من كلّ الأطراف، وفهمت أننا ذاهبون إلى الكارثة». كتَبت قصيدة قبل الحرب، عن مدينة تتجه نحو الجحيم على متن القطار السريع. «شعرت لاحقاً أنّها كانت نبوءة للمجزرة التي بدأت عام 1975 وكان عنوانها L'express Beyrouth ---->Enfer. وتستدرك: «لكنّ الشعر يفيد ولا يفيد أحياناً».
القصيدة لم تتمكّن من إيقاف الحرب، لكنّ الحروب الأخرى تركت بصماتها على قصيدتها. «الحرب الأصعب ليست تلك التي نخوضها مع إسرائيل، بل إنها الحرب على الجبهة الداخليّة المهددة بسبب الانقسامات. بلد ضعيف من الداخل لا يمكن أبداً أن يفوز بأي حرب». تتحدّث الشابة الثمانينيّة بصفاء نادر، بروح طفلة ولسان أسطورة. «ليست إسرائيل وحدها من يجتاح لبنان، هذا البلد الصغير تجتاحه أيضاً ثقافة السطحيّة والابتذال».
كان قدر عدنان التي تجمع روافد عدّة شاميّة وتركيّة ويونانيّة ولبنانيّة، أن يرتبط شعرها بحروب وثورات كثيرة. فلسطين ولبنان والعراق. حرب الفيتنام التي كتبت ضدّها قصيدة شهرتها في الولايات المتحدة. حرب التحرير الجزائريّة التي جعلتها تنقطع عن الكتابة بالفرنسيّة. علاقتها بالفرنسية إشكاليّة... ابنة روز ليليا (اليونانيّة) وأصاف قدري (السوري) تحمل من طفولتها تجربة مريرة مع مدارس الراهبات. «ما زلت أكرههن لأنّهن حرمنني تعلّم العربيّة. لاحقاً، حين صرت صديقة أدونيس ومحمود درويش، كنت أحزن لعجزي عن مشاركتهما الحديث بالعربيّة».
الحلّ لمعضلة اللغة وجدته حين بدأت «ترسم بالعربيّة» كما كتبت مرّةً. لكنّها لم تصفح بعد عن الراهبات لسبب آخر. «كنّ يظهرن اشمئزاراً من ديانة والدي: إيتل المسكينة والدها مسلم». لكنّ الدين لم يكن هاجساً أساسيّاً في حياتها. «سارتر أحببته كثيراً في صباي لأنّه علّمنا أن الإنسان يمكن أن يكون أخلاقياً من دون دين». رأت أبا الوجوديّة مرّة في باريس، كان جالساً مع سيمون دو بوفوار في أحد مقاهي الحي اللاتيني... «لكنني لم أجرؤ على إلقاء التحيّة عليه».
شهدت بيروت ولادتها الأدبية الأولى... وفي الولايات المتحدة كُرّست بين كبار الكتاب الأميركيين
وتغرف من معين الذكريات واقعة مهمّة. ذات مرّة كتبت قصيدة «خمس حواس لموت واحد»، عن انتحار صديقة لها: «كان ذلك قاسياً. موت الأشخاص الذين نتعلّق بهم، يطفئ شيئاً ما في حياتنا». ترجمها يوسف الخال لنشرها في «شعر»، لكنّ الشاعر اللبناني تردد في ترجمة القصيدة التي تخاطب المؤنّث، قبل أن يرضخ لإصرارها على عدم تغيير الحبيب المخاطب إلى صيغة المذكّر! إيتل عدنان نصيرة دائمة للأنوثة، ونسويّة بمعنى «إعطاء في حياتها أيضاً. غاندي وعبد الناصر وكمال جنبلاط، ثلاث صور تسكن خيالها. تتحدّث عن الأخير بكثير من الإعجاب، فقد «كان فيلسوفاً على طريقته»، لكنّ بطلها المطلق يبقى بدر شاكر السياب. اليوم، تعيش عدنان بين باريس وكاليفورنيا وبيروت. أيّ مِن هذه المدن موطنها؟ في الولايات المتحدة، عاشت نصف قرن، كتبت أشعارها وكُرّست بين كبار الشعراء الأميركيين. باريس فسحتها على أوروبا. أما بيروت التي شهدت ولادتها الشعريّة الأولى، وورثت أوهامها... فتربطها بها علاقة تستعصي على الوصف. لنقل إنّها تحبّها كما نحبّ عشيقة عتيقة يرافقنا طيفها على دروب الحياة. الشاعرة المتمسّكة بهويّتها، والملتزمة عضوياً بالقضايا العربيّة، تتقاسمها لغات أخرى، لكنّها تحمل الوطن... الوهم على ظهرها أينما حلّت.

7:00 مساء اليوم: الافتتاح بمعرض لإيتل عدنان، وموسيقى زاد ملتقى، وكلمات وزير الثقافة سليم وردة ونضال الأشقر وفواز طرابلسي وإيتل عدنان، أغنية لجاهدة وهبي، فيلم المخرجة اليونانية فوفولا سكولا، مسرحيّة «في قلب قلب جسد آخر» لناجي صوراتي. الجمعة والسبت والأحد: ندوات وقراءات بمشاركة: عباس بيضون، سمير الصايغ، رافع الناصري، حنان قصاب حسن، أمل ديبو، مي مظفر، نزيه خاطر، إسكندر حبش، مهى سلطان، زاهي وهبي، محمد علي شمس الدين، عيسى مخلوف، عبده وازن، عقل العويط، أنطوان الدويهي، جمانة حداد، حمزة عبود، وآخرين. للإستعلام: 01/753010