قاسم حدّاد: تخليد هذا المعنى


جديد الشاعر البحريني «الغزالة يوم الأحد» (الغاوون)، أشبه بدليل استعمال للحياة. قصائد قصيرة، وتأملات في السياسة والفن والحب والحياة، وحكم مدسوسة
في الكتابة...


حسين بن حمزة
في كتابه «الغزالة يوم الأحد» (الغاوون)، لا يقدم قاسم حداد قصائد جديدة. إنها «شذرات» حسب ما جاء على الغلاف. الشذرات ليست شعراً، لكنّها غير بعيدة عن الممارسة الشعرية، فهي تشترك مع القصيدة في الوصول إلى معانٍ غير مطروقة، عبر الكثافة والتخييل والاستعارة وغيرها من حِيَل الشعر وتقنياته. الفرق أنّ الشعر مفتوح على احتمالات غامضة ومتعدّدة، بينما الشذرة محكومة بمذاق المثل السائر والقول المأثور.
رغم التقارب الشديد في المكوّنات والصياغة، تظل الشذرات فناً مستقلاً. لم يزدهر هذا الجنس الأدبي في الكتابة العربية، لكننا نستطيع استخلاص أشكال عديدة من التأمل الفلسفي والحكمة فيها، كما هي الحال في شعر زهير بن أبي سلمى والمتنبي والمعري، وفي نثر أبي حيان التوحيدي والجاحظ. في الآداب الأجنبية، نتذكر شذرات هيراقليطس، وأشهرها أنّه «لا يمكن الإنسان أن يستحم في النهر ذاته مرتين». وشذرات الحكمة الصينية في كتاب «التاو» المنسوب إلى لاوتسو. نفكر في «توقيعات» إميل سيوران، فضلاً عن كتابات متفرقة أخرى، عربية وأجنبية، مبثوثة في مصادر ومؤلفات مختلفة.
الشذرة عند قاسم حداد أشبه بقطعة سردية مختزلة ومضغوطة ومكتفية بمعناها. الطموح هنا هو تخليد هذا المعنى، وجعله لائقاً بالتجربة الشخصية وتجربة القارئ أيضاً. إنّها حكمة برسم الآخرين، أي أنّها تمتلك، مثل أي حكمة أخرى، قابلية الاستخدام والتطبيق. بهذا المعنى، تتحول شذرات الشاعر البحريني إلى دليل لاستعمال الحياة. إنّها وجهات نظر وأفكار مصوغة في قالب شعري لتكون قادرة على نقل العدوى إلى القارئ. إنها حكَم مدسوسة في الكتابة وغالباً ما تختصر الكتابة كلها. أحياناً تكون الشذرة مكتوبة بضربة أسلوبية واحدة، مثل: «اطرقْ جدارَ غرفتك/ النوافذ تنشأ من هذا الطرْقْ»، أو «تحت الشمس/ على تماثيل الشمع أن تقنعنا».
تطول الشذرات وتتشعب أحياناً، كما في الشذرة رقم 302: «زعمكَ الإلحاد، والجهر به، يعني في العمق، اعترافك، أو بالأحرى إيمانك بوجود الله. وأنك لا تريد أن تصدق ذلك. غير أن موقفك من جهة إلحادك، لا ينفي وجوده، بل يؤكده. إبليس هو الآخر، لم يذعن له، فيما كان الله أوسع حكمة، عندما ذكر إبليس وموقفه في محكم كتابه. ألا يمثّل هذا ضرباً من اعتراف متبادل بالوجود».

ألا تمكن كتابة شذرة «ملعونة» تعزّز حيرة الكائن؟
الأمثلة السابقة تكشف عن نوعين أساسيين للقطعة الشذرية التي يكتبها صاحب «عزلة الملكات» (1992): النوع الأول مقتضب تتسع فيه الرؤيا وتضيق العبارة، بحسب عبارة النّفري. والثاني أكثر مرونة وتدفقاً ويحتمل السرد والاستطراد والشرح. ليس المطلوب من الشذرة أن تكون قصيرة كي يسهل حفظها واستخدامها والاستشهاد بها، لكنّ القصر يمنحها نفوذاً جمالياً لدى القارئ. نحسّ أحياناً أن الإطالة تفسد الشكل الذي نحبّذه للشذرة. نريدها أن تشبه الأمثال والأقوال المأثورة. بحسب فهمنا المسبق، لا بد من أن تكون الشذرة قاطعة وسريعة الوصول إلى معناها المستهدف، بينما الاسترسال والمماحكات المنطقية الطويلة تعوقها عن بلوغ معناها بالسرعة المطلوبة، ويجعلها مضجرة للقارئ المتحمس.
تحتفي شذرات قاسم حداد بموضوعات متنوعة: الفن، والكتابة، والسياسة، والحب، والدين، والشعر، واللغة... نقرأ ونحسّ أن الشاعر يدسّ ذاته وأفكاره في الكتاب. الشذرات هنا هي خلاصات شخصية للحياة والتجربة الفردية. هناك شذرات منجزة بذكاء ورشاقة، مثل: «الحروب الكثيرة/ تصقل النّصال/ لكنها تقتل الفارس». وهناك شذرات تحتوي على حكمة تعليمية مباشرة: «لا يشغلنّك تأليف الكتب عن قراءة الحياة».
أخيراً، ثمة سؤال يتعلّق بالإيجابية والحثّ على الصدق واللياقة الأخلاقية وغيرها من الصفات التي تستبسل الشذرات في تبنيها والدفاع عنها. ألا تمكن كتابة شذرة «ملعونة» تعزّز حيرة الكائن وتفسد طمأنينته واستقامته؟