دبي ـــ حازم سليمان
كبرت مساحة القلق في أعمال التشكيلية اللبنانية زينة عاصي (1974). اشتغالها المتجدّد على مشهديات مأزومة شكلاً وموضوعاً، أخذ ملمحاً معمّقاً. الرغبة في رصد ثنائية المدن والبشر تحوّلت إلى هاجس تعبيري، وامتثال لتجسيد انتكاسات شهدتها الكثير من المدن العربية. أعمال عاصي الجديدة التي قدّمتها أخيراً في صالة «سوا» (دبي) تحت عنوان «حركة الجموع»، ليست كما تبدو امتداداً لمعرضها السابق «ساحة جماعية». الحفاظ على الأدوات والمناخ العام لا يحيلنا على مضامين سابقة. اللون في أعمال هذا المعرض صار أداة لخلق علاقات بصرية حافلة بالتضادّ. التقشّف يغلب على غنائية كانت حاضرة في الشكل الذي تخّلص من شبح إيغون شيلي وعلاماته البصرية الفارقة.
39 عملاً حملت توقيع فنانة لفتت الأنظار بتجاربها التي تتّسم بحيوية خاصة. تواجه الفنانة اللبنانيّة إغراءات التصوير بتحريفات تغذّيها بإيقاعات داخلية، تنعكس على سطح لوحة مراوغة تستقطب العين. أعمالها لا تُخفي مضامين بعيدة عمّا نراه مباشرةً. فعل التورية يبدو خلف حشود بشرية وبنائية تُغلق المشهد تماماً. مساحات مكتظّة بتفاصيل تُجهد العين، وخصوصاً لدى محاولة رصد فروق في هوية الأشكال القائمة على تيمة التكرار المبطّن بتضليلات بسيطة، تزيد من إغراء الشكل.
في مرحلتها الأخيرة، لم تعد زبنة عاصي تطرح الحميميّة كردّ فعل على تهميش الفرد. المادة اللونية المختلطة (زيت، وأكرليك، وأحبار وخامات الورقية) قرّبت التجربة من حدود المواجهة. ثمة رثائية واضحة للحرية الشخصية. حشودها ليست طقساً جمعياً، بقدر ما هي إبراز لمناخ اغترابي عصابي. تعطيل الحركة الخارجية، تحوّل في هذا المعرض إلى ضرورة لتتبّع فوضى نفسية يصعب تعقّبها أمام كل ذلك الاحتشاد المُنفّر.
ثمة حيلة انطلت على الجميع. شخصيات مهزومة تقرأ الكتب والصحف، أو تنفث دخان سجائرها في أفق رمادي. المدينة التي تلهّينا بالتحايل على راداراتها، استكملت حصارها وسدّت على الناس منافذ يسترقون النظر منها إلى سماء لا تُنذر برحمة قريبة. قد تكون هذه الأسطر محاولة استنطاق لشخوص زينة عاصي. في لوحات مثل «بورتريه القارئ» (كولاج ومواد مختلفة على قماش ـــــ 120 × 120 سنتم)، تضع الفنانة شخصياتها في منطقة ملتبسة جداً. ثمة
تضع الرسّامة شخصيّاتها في منطقة ملتبسة، وقد أوقفت وقع الزمن
www.zenaassi.com
ثنائيّة المدينة والإنسان
مدن زينة عاصي ليست مرادفاً للمدنية. الكتل البنائية صارت أكثر قسوة، اتخذت أشكالاً أفقية ومخروطية. استكمال خلخلة هوية المكان أعطى الأعمال بعداً تغريبياً عنيفاً بعض الشيء. لم يعد الناس يذهبون إلى بيوت بل إلى مساحات ضيقة قوامها منتجات خادعة لشركات أثاث عابرة للقارات. مدن هذه الرسامة لا تفرز واقعاً اجتماعياً. مساحة كبيرة من الازدواجية تبرزها بين تطوّر المدن والفرد. بشر يعيشون بعقلية العشيرة في الطابق الـ150. ليس في هذه الأعمال مواقف عاطفية ولا امتثال لحنين ما، بقدر ما هو لعبة بحثية تضعنا أمام تلميحات وإشارات ضخمة إلى مكمن الخلل بين الإنسان والمدينة.