في كتابها «تياتر بيروت» (دار أمار للنشر)، تكتب الممثلة اللبنانيّة عن خشبة عرفتها في مجدها وإحباطاتها. الدراسة التي بين أيدينا تأريخ لتحولات الفضاء، ومعه أسئلة الحداثيين ما قبل الحرب الأهليّة، وتحوّلات بيروت منذ الستينيات حتّى اليوم
بيسان طي
قلّما ارتبطت تجربة كاتب بصاحبه مثلما ارتبطت حنان الحاج علي بـ«تياتر بيروت»، كتابها الصادر أخيراً عن «دار أمار للنشر» Amers Editions. الكتاب في الأصل موضوع رسالة ماجستير أعدّتها الكاتبة. لكنّ العلاقة بين حنان وكتابها تتعدّى هذا الإطار. إنها علاقة الفنانة بالخشبة التي أرّخت لتحولات المدينة، وإحباطاتها، وأسئلة الحداثيين قبل الحرب الأهلية اللبنانية.
يذهب «مسرح بيروت» في علاقته بالمدينة أبعد من مساحة الخشبة والكواليس وصالة المتفرجين. إنّه بذاته فضاء ممتد في العاصمة اللبنانية كلّها. إنّه وثيقة عن تاريخها، وفضاء متفاعل مع ما عايشته بيروت على الأصعدة السياسية والاجتماعية والثقافية أحياناً، أو منزوٍ عنها في أحيان أخرى.
أُسّّس «مسرح بيروت» عام 1965. ويلفت الكتاب إلى أنّه «كان أول مسرح دائم صُمّمت خشبته خصوصاً للعروض المسرحية الجادة أو الفنية الملتزمة أو الطليعية. لكنّ كلمة «دائم» لا تعني أبداً أن أبوابه لم تغلق يوماً، بل إنّ عمليات إغلاق ثم إعادة افتتاح المسرح تكررت مراراً.
خرج الممثّلون من المسرح في تظاهرة بعد تنحّي عبد الناصر
وبالعودة إلى مرحلة ما قبل الحرب، فقد كانت خشبة هذا المسرح مكاناً احتضن أهم التجارب الطليعية المسرحية. يزخر كتاب حنان الحاج علي بالصور والتفاصيل عن حياة «مسرح بيروت» في الستينيات، بل تذكر أن هذا الصرح يختصر «مسيرة المسرح اللبناني اعتباراً من منتصف الستينيات حتى اليوم. فقد احتضن منذ إنشائه أعمالاً وتجارب عبّرت عن الحيّز المشهدي العام، وطبعته وأُرخت فيه». لكنّ الكتاب لا يُختصر في الجانب التأريخي ـــــ الأرشيفي البحت. تطرح الحاج علي مجموعة مهمة من الأسئلة عن «مسرح بيروت» ووظيفته ومكانته. لكنّها من خلال المسرح، تطرح الأسئلة عن بيروت نفسها، إذ جاء وجود هذا المسرح ـــــ كما الفضاءات المسرحيّة الأخرى ـــــ «استجابة طبيعية لتطوّر حاضرة بيروت كنموذج مديني حداثي». من هنا، تسأل الكاتبة: «فهل تعني تعثراته المتلاحقة ـــــ أي تعثرات مسرح بيروت ـــــ ضموراً في هذا النموذج؟».
لا يقدّم الكتاب إجابات سريعة أو مبتسرة عن الأسئلة المطروحة، بل يذهب إلى تحليل فضاء هذا المسرح، كفضاءٍ إشكالي. تتوقف الحاج علي عند دلالات موقع المسرح، والعلاقة التفاعلية بينه وبين البحر الذي يحاذيه، كعلاقة دائمة ومتحركة، فـ«تجاور البحر والمسرح هو في الوقت نفسه، الهروب من المدينة والذهاب لملاقاتها».
تتوقف الحاج علي أيضاً عند الجانب المعماري الهندسي. تكتب كيف تحول المرأب إلى مسرح، وكيف فُكّر في كل الجوانب والتفاصيل الهندسية... ثم تنتقل إلى التجارب التي احتضنها «مسرح بيروت»، كتجارب التأليف الجماعي. وهنا، لا بدّ من التوقف عند تجربة «محترف بيروت» وتجربة «مسرح الحكواتي».
في فصول كتابها، تتابع الحاج علي دراسة «مسرح بيروت» كفضاء مديني. تقيم في الدراسة تفكيكاً متعدد المستويات والاتجاهات أو الاختصاصات. لكن ما يميّز الكتاب أنّه مكتوب بلغة سلسة. وإضافةً إلى أهميته الكبيرة بالنسبة إلى أهل المسرح والمهتمين به، يمكن أن يكون ذا فائدة كبيرة أيضاً لقارئ غير متخصص.
في حديثها عن هذا «الفضاء الموشوم بالحرب»، تذكّرنا الحاج علي بما كتبه بيار حاج بطرس ورنا حداد: «ثلاثة مهندسين سينوغرافيين شكّلوا فضاء «مسرح بيروت» خلال الحرب: الأحزاب وعاشوراء ومسرح الحكواتي». تلفتنا هذه الجملة إلى توسّع دور المسرح. المكان ليس للعروض الثقافية فقط. إنه جزء من المدينة. يستوقفنا في الكتاب حادثان: أوّلهما خروج الممثلين من المسرح للمشاركة في تظاهرة احتجاج بعد خطاب التنحّي الذي أعلنه جمال عبد الناصر واحتجاجاً على القصف الإسرائيلي لمطار بيروت عام 1969. لم يكونوا وحيدين، لقد خرجوا مع الناس، إذ كان المسرح يأوي غير الفنانين. من جهة ثانية، تذكّر الحاج علي بخروج مسرحيّة «مجدليون» من «مسرح بيروت» إلى الفضاء العام.
تستفيض حنان الحاج علي في كتاب «مسرح بيروت» في عرض البرمجة التي شهدها هذا المسرح، والتمويل للعروض والأنشطة، كما تتوقف طويلاً عند التجارب التي شهدها الصرح الثقافي قبل الحرب وبعدها.
يصعب تلخيص الكتاب، فهو يزخر بالمعلومات المهمة عن المسرح، وبيروت، وحقبات مختلفة ومتنوعة من حياة الناس والمدينة. لكن يمكننا أن نتوقف عند إحدى محطات إعادة افتتاحه، تحديداً بعد انتهاء الحرب. في 6 تشرين الأول (أكتوبر) 1992، فتح المسرح أبوابه وقُدمت مسرحية ريمون جبارة «من قطف زهرة الخريف» التي كانت «تتناسب مع تطلّعات مجتمع منهك يتطلّع إلى سلم حقيقي». لكن هل كان السلم حقيقياً؟ خشبة «مسرح بيروت» احتضنت الأعمال التي زخرت بالأسئلة وبالأحلام، وخصوصاً بالنقد لوهم السلم الحقيقي. «مسرح بيروت» أو ربما بيروت مسرحاً، هذا ما يمكن أن نخلص إليه بعد قراءة كتاب حنان الحاج علي. حتى عند انزوائه وإقفاله، يعكس المسرح جانباً من حيوية العاصمة اللبنانية لناحية استسلامه لوظيفة تهميشه. لكنّ القارئ سيستنتج أن الكتاب هو عن «مسرح بيروت» كممر ومقر ومفر. إنّه عن المسرح الذي كان يقع في وسط «جمهورية الآداب العربية» في وسط بيروت يوم كانت ملجأ المثقفين العرب بكل تناقضاتهم وإنتاجاتهم.