بيار أبي صعبأواسط الثمانينيات. في جيب الصحافي الشاب الذاهب لأوّل مرّة إلى القاهرة، كمن يحجّ إلى أندلس بعيدة، ورقة عليها بضعة أسماء لمثقفين يحلم بلقائهم. اسم هذا الناقد الصدامي كان يتصدّر القائمة. كان لا بدّ من التعرّف إلى الكاتب الذي قرأه مثل أبناء جيله في بيروت، واكتشفوا من خلاله المسرح المصري في الستينيّات، فإذا بهم يعتنقون متأخّرين ذلك العصر الذهبي، ويتآلفون مع أسماء وتجارب وأفكار... مع أحلام سيمضي فاروق عبد القادر الجزء الباقي من عمره يستنتج سقوطها، ويحاول أن يفهم انهيارها. انهارت الأحلام، لكنّه تدبّر أمره كي يبقى أحد حرّاسها القلائل، رافضاً مقايضتها ببعض التسويات الصغيرة مثل معظم أبناء جيله.
الأحلام لا تموت، بل يهجرها أصحابها. من الطبيعي أن تكون يساريّاً في العشرين، وأن تبقى يساريّاً في السبعين. خارج المؤسسة، وضدّها بشراسة إذا لزم الأمر. يسارياً بالمعنى الأخلاقي الراديكالي الذي يفترض النظر إلى الأمور من موقع الناس «اللي تحت»، لتفكيك آليات الاستغلال والاستبداد والفساد. «الملفّ الأمني» نفسه الذي حرم خرّيج علم النفس في «عين شمس» من وظيفته الأولى عام ١٩٥٩، تقمّش واغتنى وحمله معه عبر العهود السياسيّة. لم يحاول أن يتخلّص منه أو «يبيّضه». مقالة واحدة كانت لتكفي، أو مجرّد التزام الصمت. فاروق يشبه بلاتونوف بطل مسرحيّة تشيخوف التي عرّبها. وكان من الطبيعي أن ينهي البطل التشيخوفي حياته وحيداً ومعدماً في مأوى العجزة. بل إنّه مات في اللحظة المناسبة، قبل أن يضطرّ إلى قبول إحسان المؤسسة الرسميّة التي منحته فتات جوائزها وهو يحتضر، كي «يتعالج بفلوسها». العم فاروق كتب كالساموراي، ومات كالساموراي أيضاً.