قارئ احترف الأدب ومثقف خارج المؤسسةرافق صعود مسرح الستينيات، ثم أرّخ لـ«سقوطه». دافع عن مشروعه النهضوي المعارض للسلطة حتى الرمق الأخير. مساهماته النقديّة من علامات الثقافة المصريّة المعاصرة

محمد شعير
لم يعرف الراحل فاروق عبد القادر بنبأ حصوله على «جائزة التفوق» قبل غيابه بيوم واحد عن 72 عاماً. وربما لم يعلم أيضاً أنّه ترشّح لها. بعض أفراد عائلة الناقد المصري رشّحوه، هو الداخل في غيبوبة منذ أشهر إثر جلطة دماغيّة. كان الترشيح للجائزة محاولة بسيطة من السلطة ومن الأسرة لتوفير بعض نفقات العلاج. «اتحاد الكتّاب المصريين» الذي لم يكن عبد القادر يوماً عضواً فيه، تكفّل أيضاً ببعض تلك النفقات، بعد مناشدات من مثقفين مصريين.
صاحب «مساحة للضوء، مساحة للظلال» لم يكن ليرضى بهذا الترشيح لو كان بكامل وعيه. فهو نموذج فريد ولافت في تاريخ العلاقة المعقّدة بين المثقفين المصريين والسلطة. اختار دائماً الوقوف خارج أسوار المؤسسات الرسمية، لأنّه كان يجد ابتعاده عن المؤسسات الثقافية «مريحاً جداً»، يعفيه من أي التزامات ويعطيه الحرية الكاملة ليكتب ما يشاء وقتما يريد.
وكما خاصم عبد القادر المؤسسات بأشكالها المختلفة، خاصم أيضاً مناهج النقد الأدبي الحديثة. علاقته بالسياسة جعلت وصوله إلى «الجمهور» هدفاً دائماً له. لهذا بدا أقرب إلى قارئ احترف الأدب... والبشر أحياناً، أكثر من كونه ناقداً مهموماً بمتابعة آخر مناهج النقد الأدبي. هو أقرب ما يكون حسب التسمية الإنكليزية إلى الـ book reviewer. حتّى إنّه كان يكره أن يطلق عليه أحد لقب ناقد. كانت كلمة «سيئة السمعة»، من وجهة نظره. فالنقد الحقيقي «عمل إبداعي امتحانه ليس في التنظير، بل في التطبيق».
نموذج فريد للعلاقة المعقّدة بين المثقفين المصريين والسلطة
اختار فاروق عبد القادر إذاً أن يكون وسيطاً بين النصّ الإبداعي والقارئ. كان «يكتب لقارئ مرهق ومثقل بأعباء حياته اليومية». وتلك المهمة جعلته هدفاً لهجوم كثيرين ممن وجه إليهم منصات صواريخه النقدية، وخصوصاً بعد حصوله على «جائزة العويس» عام 1993. رأى بعضهم في قبوله لها تناقضاً مع موقفه النقدي المعلن تجاه «ثقافة النفط». كان يرد على مهاجميه بأنّ الجائزة التي حصل عليها مناصفة مع الناقدة اللبنانية يمنى العيد ليست «جائزة دولة ولا نظام ولا حاكم... بل جائزة متموّل عربي يهوى الشعر من قبل اكتشاف النفط». كذلك فإن قائمة الحاصلين على الجائزة قبله «كلّهم مثقفون غير مطروحين للبيع في البازارات».
لم يوفر عبد القادر فرصة للحديث عن الشخصية الأكثر تأثيراً في حياته. والده لم يستطع أن يكمل دراسته في الحقوق بسبب مشاركته في ثورة 1919. بقي لديه حلم في أن يستكمل أبناؤه ما لم يستطع أن يحققه هو. تعلم من الوالد اللغة وإيقاعاتها، لكنّه لم يستطع أن يلتحق مثله بكلية الحقوق التي كانت حلم أبناء جيله. بل انتسب إلى قسم علم النفس في كلية الآداب في «جامعة عين شمس»، حيث تعرّف إلى الوجودية والماركسية والفرويدية.
في الجامعة انضم إلى أحد التنظيمات الشيوعية لفترة قصيرة، تركت تأثيرها الكبير عليه. لهذا السبب رفضت إدارة الجامعة تعيينه معيداً، رغم حصوله على المركز الأول، وكانت الصحافة بديلاً للتدريس. تنقل بين العديد من الجرائد والمجلات، فعمل سكرتير تحرير لمجلة «المسرح» ثم مسؤولاً عن ملحق الأدب والفنون في مجلة «الطليعة» الصادرة عن مؤسسة «الأهرام». في الخمسينيات سافر إلى السعودية حيث عمل في صحيفة «الندوة»، ونشر فيها عدة مقالات عن الاتجاهات الجديدة في الفلسفة والأدب. لاحقاً، عمل لفترة قصيرة في «الهيئة العامة للاستعلامات»، هذا إلى جانب عمله في صحف أخرى منها «روز اليوسف». اكتفى في فترات الأزمات الشخصية بالترجمة، فأنجز «الأعمال الكاملة لبيتر بروك». وترجم كذلك مسرحيات تشيخوف، وتينسي وليامز، وآرثر أداموف، إلى جانب مؤلفات نظريّة منها كتاب جيمس روز إيفانز «المسرح التجريبي من ستانسلافسكي إلى اليوم»... فاروق عبد القادر يترك وراءه 25 كتاباً في النقد الأدبي والمسرحي منها، «ازدهار وسقوط المسرح المصري» (1979)، «من أوراق الرفض والقبول» (1993).

يقام عزاء للكاتب الراحل في «مسجد رابعة العدوية» في القاهرة غداً