باسم الحكيم... وفي الذكرى الرابعة والعشرين على رحيله، نتذكر عاصي الرحباني في تفاصيل حياته. ليس موضوعنا هنا الفن الرحباني، بل الحياة الخاصة لعاصي. سندخل في حياة الرجل ونفتح صفحات من تاريخه كإنسان لا كفنان. سنرسم صورة مغايرة لما ورد في الصحف وما تردد على الألسنة. إنه عاصي جديد بالنسبة إلى كثيرين، ولعل بعض ما يرد في كلام صديقه الفنان فايق حميصي وهو شريكه في السكن لثلاث سنوات، يعطي انطباعاً مختلفاً عما حفظه عنه الناس.
هكذا، بعد 24 سنة من الغياب، يكسر فايق حميصي صمتاً طويلاً. يصل إلى المقهى في منطقة بشامون حيث تواعدنا. يحضّرك بأنه سيفاجئك بتفاصيل مخالفة لما يعرفه الناس عن عاصي الرحباني، وعلاقاته بفيروز وأولاده. يخبرك بأنه رفض دوماً الظهور في مقابلات عن عاصي بعد وفاته، موضحاً أن «كثراً اعتبروا أنفسهم قريبين منه، وعاشوا معه، بينما أنا كنت آخر صديق لعاصي حتى دخل في الغيبوبة». ويضيف: «عشت معه في منزله في الرابية على امتداد ثلاث سنوات بدءاً من عام 1979، ورافقته في زياراته. وحين انتقلتُ إلى بيتي مجدداً بعد الاجتياح، لم أنقطع عن زيارته لدى اشتداد مرضه».
ويسأل: «ماذا سيكون موقف عاصي، لو كان لا يزال على قيد الحياة؟» في إشارة إلى الخلافات التي خرجت إلى العلن أخيراً بعدما قرّر ورثة منصور شن معارك قانونيّة ضدّ فيروز (راجع ص 18 و19). لا ينتظر حميصي الإجابة، بل يجيب بنفسه «عاصي كان ليضبط الأمور حتماً. الخلاف كان موجوداً منذ أيام عاصي، لكنه لم يكن يوماً طرفاً فيه». إذاً، صمت حميصي طويلاً وأراد فجأة أن يقول كل شيء لكن بأسلوبه اللبق، يقول: «احترمت خصوصيّة أنني أسكن معه في المنزل خلال بروفات مسرحية «الربيع السابع» (1979) من بطولة ملحم بركات ورونزا ويوسف شامل، وخلال عرضها أيضاً. لم أرد المزايدة والانضمام إلى من يدعون معرفته».
هناك ما قرّب بين عاصي الرجل الستيني وفايق الشاب الثلاثيني الممثل والأستاذ الجامعي يومذاك، وأسهم في تمتين صداقتهما. لا ينكر حميصي محبته له كفنان أولاً، ثم تعلقه به كشخص «لبراءته وحساسيته المفرطة». ويشرح: «جمعني بعاصي حبّه للفلسفة والماورائيّات، والنقاشات المتعلقة بمسألتي الحياة والموت». لا يتطرق حميصي إلى الخلافات الحاليّة بعد فتح النار على فيروز: «أتصوّر أن فتح النار على فيروز وراءه دوافع ماديّة. لن يغيّر كلامي شيئاً، لكن ما أعرفه أن فيروز فوق الاعتبارات الصغيرة... أما عاصي، فلم يكن يعرف حقوقه، وكان يعتقد أن المال موجود ليذل من يعبده ومن يعيش حياته لجمعه».
من عاصي تعلّمنا أن نحب فيروز وألا نذكرها إلا بالخير...
وينتقل إلى علاقة عاصي بفيروز بعد الانفصال: «عندما دخلت المنزل، لم تكن هي موجودة، لكن للأمانة، لم يقل مرة كلمة فيها إساءة لفيروز. على العكس، كان ينتظر اتصالها يوميّاً، ويستعجل ليرد على اتصالها على «الهاتف الأسود». أذكر أنه من الليلة الأولى لدخولي إلى بيته، قال لي يمكنك أن تجيب على الاتصالات على الهاتف الأخضر. أما الهاتف الأسود فلا تجب عليه مطلقاً. سلمت جدلاً بالموضوع، لكونه أمراً خاصاً في حياته، حتى ارتفع صوته مرة ولاحظت أنه يتكلم مع نهاد (أي فيروز)، كان ينتظر اتصالها لحظة بلحظة، ويكون في حالة نفسيّة، عندما لا تتصل». ويضيف: «سألته ماذا يجب أن يحدث لتعود فيروز إلى المنزل، أجابني لا شيء، عليها فقط أن تفتح الباب وتدخل، لكن كما رحلت وحدها، عليها أن تعود وحدها».
صورة ورديّة يرسمها الممثل وفنان الإيماء اللبناني عن علاقة فيروز بعاصي، بخلاف ما نشر مراراً في الإعلام. يقول: «معايشتي لعاصي لم توح لي بأي صورة سلبيّة. كان يردّد دوماً: حبذا لو يفتح الباب وتدخل فيروز، حبذا لو يدخل زياد الآن». وينقل عنه ندمه لأنه سمح لمن بلغ سن 18 من أبنائه أن يخرج من تحت سقفه. كان متعلّقاً بهم حقّاً. كان يقول ليت زياد متمرّد وليس ملتزم ثورة. وعندما نسأله عن الفرق بين الأمرين، يجيب بأن «المتمرد يداوم على ثورته. أما ملتزم الثورة، فينتهي تمرّده عند تحقيق أفكاره، ولأن عاصي كان متمرّداً في الفن».
ظلّ حميصي شريكاً لعاصي في المسكن حتى الاجتياح الإسرائيلي للبنان. يصل إلى بيروت صباح الاثنين، ويمضي نهاره بين الجامعة ومنزله في الرملة البيضاء في بيروت، ثم يقصد منزل عاصي بعد ظهر الثلاثاء. يقول: «سهرة الاثنين خصّصها عاصي لاستقبال المثقفين والكتّاب، لكن نقاشاتنا تبدأ ليل الثلاثاء، حتى تعلّق عاصي بصداقتنا، لذا داومت على الإقامة عنده بعد انتهاء المسرحيّة».
يروي فايق كم كان المعلّم الرحباني يعشق عائلته. يتذكّره عند المغرب، يسدل ستائر الصالة «لأن فيروز كانت تفعل هذا»، مضيفاً أن «ما كتب وما قيل عنه يحوي ظلماً له». ويختصر أيّام عاصي الأخيرة بأنها انتظار لمن يحب. كان يترقّب لحظة دخول عائلته إلى البيت، لكن من دون أن يطلب ذلك، لأنه كان يظن أنك إذا طلبت أمراً معيّناً، فلن تشعر بمتعة الحصول عليه».
ويضيف: «كان يردد دوماً أنه سيموت، ولن يجد أحداً إلى جانبه. وحين توفي، كنت مع أبناء منصور في الكويت لتقديم استعراض «هالو بيروت»، حيث حللتُ بديلاً لرياض شرارة في العمل بعد تغييرات جذريّة فيه. حزنت لأنني لم أكن معه. طيلة فترة مرضه، لم يزره سوى فيروز وأولاده...».
وتزداد نبرته حزماً: «قيل الكثير عن عاصي، وأعتقد أنّ في هذا الكلام ظلماً كثيراً. لا أعتقد أنّه كان يعامل الآخرين بقسوة. لم أره طيلة ثلاث سنوات يشرب الخمر. وعندما يراني أحمل كأساً من الويسكي، يقول لي أحياناً سأشاركك وأشرب نخبك. ويضع نقطة من الويسكي في كوب من الماء. وأضحك عندما أقرأ بأنه ضيّع ماله في لعب الميسر، وهو في الواقع لا يعرف «بنت الكبّا» من «بنت البستوني».
يتحدث حميصي عن موقف لعاصي يمزج الغضب بالدعابة، إذ ينقل عنه قوله غاضباً «تعا ندعوس بصالون فيروز. وهو الركن الذي كانت تجلس فيه. هو انفعال على طريق الأولاد. ويتحول المزاح إلى كوابيس فعليّة عند سفر فيروز. كان يؤلمه غيابها كثيراً». ويتذكر حميصي يوم اتصل به منصور، ليبلغه أن عاصي صائم عن الكلام، وأنه لن يتكلم إلا معه. يقول: «خرجت سريعاً من بيتي واتجهت إليه، فوجدته جالساً في الغرفة البيضاء، فقال لمنصور هذا يفهمني. جلسنا، فمسك يدي ونظر إلى الأرض. بعد قليل، خرجتُ وقلت لمنصور: كل ما يريده أناس يحسّون به».
تجاوزت مدة الجلسة مع فايق حميصي ساعتين، لم يتطرق خلالها إلى الحرب التي فتحها ورثة منصور على فيروز في الفترة الأخيرة. أمام إلحاحنا، يعبّر عن وجهة نظره: «الحصار القانوني على فيروز هو من أجل المال. في حياة عاصي، لم تكن الخلافات المادية ممكنة، لأنّه كان فوق المادة. يهمّني التأكيد على هذه الحقيقة، لأنني أخاف أن أموت غداً ولا يعود هناك من يذكّر بها. مرّة، قلتُ مثل هذا الكلام في إحدى جلساتي، فلم يصدقني أحد. الأفكار المسبقة فظيعة في الوسط الفنّي».
وينقل عن دريد لحّام «كلمة جوهريّة في تصدّع التركة الرحبانيّة»، بسبب الجشع المادي الذي يحرّك بعضهم: «إنهم أوبة حرامية يسرقون منّا الحلم. هذا الحلم هو الأخوان رحباني وفيروز». ويعبّر فايق حميصي عن اعتقاده أن «الملف القضائي هو أقل شيء في الحرب التي تشنّ اليوم على فيروز، لأن الكلام الذي يتردد هنا أو هناك هو الأكثر إيذاءً. وأستغرب كلام أسامة اليوم في الموضوع، وهو عند ازدهار المدرسة الرحبانية، كان يتابع مباريات «الفوتبول» هاتفيّاً من تحت اللحاف».
ويستغل ذكرى رحيل عاصي ليوجّه تحيّة حب إلى السيّدة فيروز «التي وصلها يوماً أنني أسأت إليها. والآن أؤكد لها أن هذه ليست الحقيقة، ومن يعش مع عاصي، يتعلّم أن يحب فيروز وألا يذكرها إلا بحسن الكلام».
لم يتكلم فايق حميصي عن الفن الرحباني إلا قليلاً، ويطرح السؤال على نفسه: «يحاول بعضهم أن يجتهد ليعرف ما الذي أعطاه عاصي وما هي إضافات منصور. في الحقيقة، قلما خاض عاصي خلال معرفتي الحميمة به، في مثل هذه المسائل. كنا نسمعه أكثر يقول مثلاً إن اللحن الفلاني أوحت له به صبية تقف عند الشباك». ويضيف: «ما أعرفه أنهما كانا يعملان معاً. لكنّ الأمور تبدّلت بعد رحيل عاصي، وبات المسرح الرحباني تنقصه اللمعة، لأن الكلمة الأخيرة كانت دوماً لعاصي. لقد كان الآمر الناهي في كل شيء ويضع اللمسات الحاسمة على الشكل النهائي للعمل».
ولا ينتهي الكلام. يوافق حميصي على الكلام الذي قاله ملحم بركات في حوار تلفزيوني، بأن مسرحيّة «صيف 840»، كانت جاهزة قبل رحيل عاصي. ويضيف: «أعرف أن ملحم كان سيؤدي شخصيّة «سيف البحر» في العمل الذي كان عنوانه الأولي «عاميّة أنطلياس»». ويعود إلى «صيف 840»: «حين عرضت المسرحيّة، انتظرت معرفة توقيع من ستحمل، فإذا باسم منصور يتصدر العمل. وهذا منطقي لأن عاصي كان قد رحل عن دنيانا، ويفترض أن منصور أكمل إنجازه وحده... لكن عبارة «تحيّة إلى عاصي» كانت كافية لتكريمه». لكن ورثة منصور نسوا ذلك حين استعادوا المسرحيّة: «لم أستسغ أن يهدي أبناء منصور المسرحيّة إلى والدهم وحده، عند استعادتها أخيراً، فكيف سمحوا لأنفسهم بأن يهدوا عملاً أهداه والدهم إلى شقيقه؟».