«شاهد» معرضها الفردي الأوّل في بيروت
الأعمال التي نشاهدها طوال الصيف، خلاصة محترف ذاتي خاضته في «مركز بيروت للفنّ» على مدى خمسة أسابيع. تجهيزات بالأسلاك الشائكة والخرائط وكرات المدافع، يعرضها BAC احتفاءً بالتشكيليّة الفلسطينيّة ـــ اللبنانيّة ـــ البريطانيّة التي تركت بصمتها على الفنّ المعاصر منذ الثمانينيات

حازم سليمان
لم تمتثل تجربة منى حاطوم إلى ضغوطات محيّرة وملتبسة مثل الهوية والانتماء. وعت مبكراً أن الهوية ليست واقعاً متحقّقاً، وأن الانتماء نتاج أفقي لا يكتمل أبداً. التشكيليّة الفلسطينية الأصل ولدت في بيروت عام 1952، ودرست الفنون في لندن حيث بقيت بعد اندلاع الحرب الأهليّة. سيرتها كانت ولا تزال سلسلة ارتحالات وانفصالات قسرية وإرادية نتج منها قراءات إبداعية معمّقة.
منذ أعمالها المبكرة مطلع الثمانينيات، وجدت حاطوم نفسها محاطةً بالأسئلة. كان عليها أن تواجه وجعاً داخلياً مركّباً، من دون الانزلاق إلى تصنيفات معطّلة لحيوية العمل الفني. لا تقدّم فناً سياسياً، بالمعنى السطحي، حتى وإن استجابت بعض تجاربها لانكسارات داخلية متعلِّقة بالوطن والاقتلاع والقسريات السياسية الجغرافية. وعيها المبكر في هذه القضايا قاد تجاربها الأدائيّة الأولى إلى صدام مع مفاهيم البنى السلطوية، والتأطير الممنهج لحرية الإنسان. كان الجسد الشخصي المادّة الأكثر تعبيراً واستجابة لمشاعر مثل الخوف والتناقض وقضايا أخرى مثل النسوية المشتّتة بين فضاءين متناقضين (الغرب والشرق).
ارتحالاتها ستكون واضحة لزوار معرضها الفردي «شاهد» الذي يستضيفه «مركز بيروت للفن» حتى 10 أيلول (سبتمبر) المقبل. إنّها جزء أصيل وعضوي في مشوار فنانة عالمية، صار اسمها رديفاً للتحولات الفنية التي شهدها العالم في العقد الماضي. استطاعت أن تؤسس لمناخ اغترابي مقلق، ونسق تعمّد منذ التسعينيات زعزعة قناعات المتلقي وفتح باب الالتباس والريبة على مصراعيه. لم تعد أعمال منى حاطوم تراهن على التفاعل العاطفي مع متلقيها بقدر تعويلها على نوع من الشحن المربك والتشكيك في البديهيات.
استطاعت أعمالها وضع فكرة الفن في مواجهة الزمن، بمعنى انتصاره على اللحظة العابرة والراهنة. غيّبت البعد المكاني للعمل، وألغت البعد الزماني الموقت للفكرة لتمنحها أفقاً تاريخياً وتأريخياً. على هامش أعمالها المعروضة في «شاهد»، سيخصص «مركز بيروت للفن» أمسيات لبثّ أعمال الفيديو التي وقّعتها حاطوم. أقدَمُها «لا تبتسم أنت أمام الكاميرا» (فيديو ــــ 1980)، يمثِّل جزءاً أساسياً من تجربتها في مرحلة الثمانينيات. تقارب الفنّانة هنا عالم جورج أورويل «الأخ الأكبر»، في لندن المحاصرة بكاميرات المراقبة. ولا تبتعد منى في «حفريات» (فيديو ــــ 1985) عن المزيد من التصادم الجسدي المباشر. لقد اختارت المشي حافية في أحد شوارع لندن، وهي تجرُّ خلفها فردتَي حزمة مربوطتين بكاحليها.
الفنّانة الحائزة جائزة «سوننغ» الفنية المرموقة التي تمنحها جامعة كوبنهاغن مرّة كل سنتين، كانت القوة والرفض والقسوة سمات لفتت الأنظار إليها. يمكن اعتبار عملها المهم «مقاييس المسافة» (فيديو ــــ 1988) ذروة تجاربها السردية. إذ قدّمت قراءة بصرية ذات أبعاد شخصية عميقة: خلفية على شكل ستارة من الرسائل التي كانت تتبادلها مع والدتها، لقطات مقربة مغشاة لجسد والدتها وهي تستحم. مثلت هذه التجربة حالة متقدمة في اشتباك حاطوم مع الحميمية عبر مضامين حسيّة وماديّة وعاطفية.
منذ مطلع التسعينيات حتى الآن، اكتسبت تجارب الفنّانة الفلسطينيّة حلّة جديدة. لم تتنازل عن خلق المزيد من الصدمات عند المتلقي. الصدمة لم تعد تتأتّى من تحفيز بصري خارجي. صار انعدام اليقين ملمحاً واضحاً، وصارت الذاتيات غير الملموسة تقود إلى مواجهات مربكة مع اتساع مساحة القلق والتوتر والتشكيك. في عملها «شاهد»، وهو مجسم من البورسلان لنصب الشهداء وسط بيروت، تحلل حاطوم فكرة التحول الذي يطرأ على قيم وطنية نعتقدها راسخةً. هذا النصب الذي كان رمزاً للانتفاضة ضد العثمانيين، تحوّل إلى نقطة تجاذب بين القوى السياسية الراهنة.

ألغت البعد الزماني الموقت للفكرة، لتمنحها أفقاً تاريخياً وتأريخياً
قراءات حاطوم التي تنقلب على قناعات راسخة، جعلت أعمالها تتخذ موقفاً ساخراً يراهن على الإعلاء من حدة التناقض. في عملها الإنشائي «مدن ثلاثية الأبعاد»، ثمّة خرائط مطبوعة لبيروت وكابول وبغداد تضعها على طاولات تتصل عبر معابر خشبية. على سطح هذه الخرائط يكمن الجدل الذي تجريه حاطوم بين تجاويف تخلّفها الانفجارات، ومجموعة من القباب المرتبطة بأوهام إعادة الإعمار والبناء.
التفاصيل الهشة لقناعتنا تحضر في عمل إنشائي آخر هو «مصباح». هنا ثمة تأكيد على التشوش من خلال لعبة الإضاءة الناعمة العاكسة لجنود يلاحقون بعضهم بعضاً. اعتمادها على مواد هشة تحمل سمة الزوال يخلق قطيعة بين الشكل ووظيفته المعهودة كما في عمل «قصاصات».
مسيرة منى حاطوم الفنية تشبه اللعبة الخطرة. في المعرض تجارب مثل «حَبّ القلق» (2009)، وهو عبارة عن مسبحة مكبّرة مصنوعة من كرات برونز تشبه كرات المدفع، وImpenetrable (2010) وهو مكعّب من الأسلاك الشائكة المعلّق بخيوط دقيقة غير مرئيّة، تلفت أنظار العالم إلى عقلية فنية استثنائية. تجربة حلّقت في فضاء العار الذي يلوث العالم. رغم الاعتراف العالمي، لا تنفك والدة حاطوم تقول لها: «أنت فنانة... لكنّك لم تعطنا حتى اليوم لوحة نعلّقها في غرفة الجلوس».


حتّى 10 أيلول (سبتمبر) المقبل ــــ «مركز بيروت للفنّ» (جسر الواطي/ بيروت) ــــ للاستعلام: 01/397018