منذ أن وصل إلى السلطة، لم تتوقّف محاولات نيكولا ساركوزي للسيطرة على الإعلام الفرنسي. واليوم، حان وقت الصحافة المكتوبة التي بقيت عصيّة على الرئيس الفرنسي
صباح أيوب
لم يكن ينقص خطّة نيكولا ساركوزي للسيطرة على الإعلام الفرنسي سوى أزمة مالية تضرب المؤسسات الإعلامية، فتجعلها تحت رحمة المموّلين من «أصدقاء الرئيس» أو من مؤسسات الدولة مباشرةً.
منذ تولّيه الرئاسة، وضع ساركوزي الإعلام الفرنسي في أولوية القطاعات التي يريد التدخّل فيها شخصياً، فبدأ حملة صرف وتعيينات، واضعاً المقرّبين منه في أماكن السلطة والقرار في مؤسسات الإعلام الرسمي. ولعلّ آخر تدخّل رئاسي مباشر كان تعيين جان لوك هيس، صديق ساركوزي، في منصب رئيس «راديو فرانس»، بعدما قولَب الإعلام المرئي الخارجي والداخلي على قياس مصالحه.
اليوم، جاء دور الصحافة المكتوبة التي كانت عصيّة عليه لكون بعض مؤسساتها لا تخضع لسلطته المالية أو السياسية. لكنّ الساحة الإعلامية تشهد اليوم اهتزاز إحدى أكبر المؤسسات الإعلامية، وأقدمها في فرنسا، وهي مجموعة «لو موند» التي تضم: صحيفة «لو موند» اليومية، موقع «لو موند» الإلكتروني، مجلّات La Vie و «تيليراما» و«لو كورييه إنترناسيونال»، و«لو موند ديبلوماتيك»، ومطبعة «لو موند». المجموعة أعلنت أنّها فتحت المجال لمساهمين جدد للمشاركة في تمويلها بعدما بلغ حجم ديونها 69 مليون يورو، بينها 25 مليون يجب إيفاؤها فوراً.
بعد 66 عاماً من النشر، تقف «لو موند» اليوم أمام خيارات حاسمة مالية ـــــ سياسية ومهنية ستمثّل نقطة محورية في تاريخها، الذي وضعها في مرتبة متقدمة بين الصحف العالمية.
أعربت «أورانج» المملوكة جزئياً للدولة عن رغبتها في المساهمة في المجموعة
الصحيفة الستينيّة التي تبيع 320 ألف نسخة يوميّاً، تعتمد في 52 في المئة من تمويلها على أسهم موظفيها والصحافيين العاملين لديها وعائلة مؤسسها هوبير بوف ميري، إضافةً إلى مجموعة «لاغاردير»بنسبة 17،27 في المئة، ومجموعة «بريسا» الإسبانية بـ 15 في المئة، ما ضمن لها هامشاً من الاستقلالية، وأبعدها عن سيطرة المموّلين لكون العاملين فيها هم أكبر مصدر تمويل.
لكن اليوم، ومع عجز مالي محرج، ستضطر المؤسسة إلى إدخال «شريك» جديد في التمويل، وبالتالي في القرار والتوجّهات السياسية، وخصوصاً أنّ ذلك الشريك أو الشركاء سيسهمون في القسم الأكبر من التمويل.
«هي خطوة تاريخية... نحن نقلب صفحة من تاريخ المؤسسة... سنعطي الحصة الأكبر من التمويل لشريك خارجي، لذا أؤكّد لكم أنّ اختيار الشركاء سيخضع لقواعد وشروط تضمن عدم تدخّل أيّ جهة في خطّنا التحريري والمهني»، هكذا توجّه رئيس مجموعة «لو موند» إريك فوتورينو إلى القرّاء في رسالة نُشرت في الصحيفة بتاريخ 4 حزيران (يونيو) 2010. لكن فوتورينو أعلن أنه قابل ساركوزي أخيراً واستمع إلى رأيه في مسألة تمويل «لو موند».
الصحف الفرنسية تحدّثت عن ضغوطات يمارسها الرئيس على فوتورينو لإبعاد بعض الأسماء المرشحة للدخول الى عائلة «لو موند» الممِّولة.
والجهات التي أعلنت رغبتها في المساهمة في تمويل «لو موند» هي: رجل الأعمال بيار بيرجيه (مساهم في صحيفة «ليبراسيون»)، وكزافييه نيال (صاحب Free، إحدى شركات توزيع الإنترنت والقنوات التلفزيونية وخطوط الهاتف في فرنسا) وهو ذو ميول معادية لساركوزي، والمصرفي ماتيو بيغاس (يملك مطبوعة les Inrockuptibles). علماً أن مجموعة «بريسا» المساهمة حالياً في «لو موند» أعلنت رغبتها في زيادة حصّتها. أمّا مجموعة «لا غاردير»، فرفضت أن تزيد مساهمتها. وكان كلود بيردريال صاحب مجموعة «نوفيل أوبسيرفاتور» أوّل من أعلن نيّته المساهمة في الجزء الأكبر من التمويل أي بـ 60 أو 70 في المئة على أن يحظى بشريك مساند يسدّد الـ40 أو 30% الباقية.
وعندما أعلنت شركة الاتصالات «أورانج» التي تملك الدولة الفرنسية الحصة الأكبر فيها عن «اهتمامها» بالمساهمة في «لو موند»، رأت الصحف الفرنسية أنّ «أورانج» ليست سوى الشريك «الصغير» الذي يبحث عنه بيردريال. من جهتها، أعلنت «أورانج» الأسبوع الماضي رغبتها في مشاركة «لو موند» «حتى لو عبر حصّة صغيرة، في عملية نقلها إلى الصيغة الرقمية الإلكترونية». هذا الإعلان أثار علامات استفهام بشأن أسباب اهتمام شركة اتصالات شبه رسمية بالصحافة المكتوبة؟ إلّا إذا كانت هناك أسباب سياسية وراء عرضها. أمّا «ذريعة» مساعدة «لو موند» على الانتقال إلى المرحلة الإلكترونية، فهي واهية، لكون «لو موند» استطاعت منذ سنوات أن تؤهّل نسختها الإلكترونية فتجعلها خبرية محدّثة، وفعّلت مدوّناتها ووجودها على مواقع التواصل. من هنا، استنتج مراقبون في الصحافة الفرنسية أنّ دخول «أورانج» على خطّ تمويل «لو موند» لا قيمة اقتصادية له، بل هو مجرّد إبراز وجود سياسي وعامل ضغط إضافي من جانب ساركوزي على إحدى أبرز الصحف المكتوبة في أوروبا... العالم ينتظر قرار «لو موند»!