مخلوقات كهنوتية هجينة مسكونة بالريبة والألمحازم سليمان
لم يفعلها تشكيلي سوري من قبل. الشاب الذي جاء إلى دمشق من دون مقدمات ولا شفاعات، قلب الطاولة في وجه كثيرين. صار اسمه ظاهرة حقيقية وعلامة فارقة لقصة نجاح وشهرة واسعة النطاق، لم تكن في يوم من الأيام في متناول مبدع في العقد الثالث من العمر. ظهور سبهان آدم (1972) على الساحة التشكيلية بأعمال لها مخالب حادة، كان أمراً مُربكاً ومُحيّراً. أعماله هدمت جملة من القواعد والقيم البصرية المحلية (إبداعاً وتسويقاً)، وخرقت تراتبية مشهد ثقافي مبني بنمطية مفرطة. نجاح آدم هو انتصار للهامش، وخلط لأوراق لعبة بدأت تتغير بصورة واضحة في السنوات الأخيرة.
هل من المبكر أن يقيم آدم معرضاً استعادياً لأعماله؟ ربما. لكنّ السنوات التي اختارها لهذه الاستعادة (1996 ـــــ 2004) في صالة «آرت هاوس» في دمشق، هي التي شهدت صعود نجمه، إذ غزت «مسوخه» صالات عرض في باريس، ونيويورك، وتونس، ودبي، وبيروت، وعمان وإسبانيا... وهي سنوات تحولت فيها لوحته من اختبار مغاير، جريء وطارئ، إلى تجارب مُكرّسة نالت قدراً من المدح والتنظير، وما يكفي من الرفض والتشويش.
منذ عام ألفين تجرّأت مسوخه على العالم، وكشفت قدراً أكبر من البشاعة الصادمة
فترة التسعينيات في مسيرة آدم هي سنوات عمل مضن، واظب فيها على رحلة الصيف إلى مرسمه في مدينته الحسكة حيث كان يصل إنتاجه إلى أكثر من 700 لوحة في أشهر قليلة، ثم رحلة الشتاء التي يعود فيها إلى دمشق مسترخياً ومتخلّصاً من جهد ذهني وجسدي غير مألوف. هذه الغزارة في الإنتاج اقترنت بتكريس لفردية لم يُفرط فيها، واشتغال تسويقي ذكي. لم يشترك آدم في معارض جماعية، ولم يُسلّم رقبته إلى من يحتكره، أو يستسلم لمزاجية صالات العرض، وأولويات وسائل الإعلام.
التأمل في أعمال آدم خلال الفترة الزمنية المحددة في هذا المعرض، يحيلنا على تجربة فطرية مدهشة، وتحوّلات ذكية في اشتغاله على تعبيرية مُحمّلة بالكثير من الغواية والفجاجة والتشويه. منذ تلك اللوحة البسيطة والعفوية لرأس امراة في مزهرية «(بلا عنوان» ـــــ قياس 145 × 157 سنتم)، لم يشتغل آدم مدفوعاً بوجهة نظر نقدية، بقدر اشتغاله على إطلاق سراح غير مشروط لقلق عميق، وامتثال صاف لمخاوف وعوالم كابوسية مؤرقة. نتاج ضخم من تجارب لا تحمل عنواناً محدداً أنجزها آدم منذ عام 1996، لكنها استطاعت أن تؤسس لخلل وقطيعة كبيرين في علاقتها مع محيطها الفني، وتجاهل عفوي أو مقصود لقواعد وبديهيات مملّة يحرص عليها الكثير في العمل الفني. في لوحة أخرى، تعود أيضاً إلى عام 1996 (146 × 155 سنتم)، نجد مسوخ آدم في حالة جنينية داخل زجاجات حمراء. لوحة تضعنا أمام حالة مخبرية في فضاء أسود، كأنها إعلان ولادة لكل ما سينتج بعد ذلك من تشويه، وإعادة إنتاج لمخلوقات كهنوتية هجينة مسكونة بالريبة والخوف والألمتسعينيات آدم كانت سلسلة أعمال تأسيسية لحضور فني نافر ونزق. كلما غاب قليلاً كان يعود بكائنات آتية من العدم. وجوه مريبة بالدهشة نفسها التي يُنظر بها إليها. عالم منفلت من دون مرجعيات تذكر. في ذلك الوقت، كان الكلام عن فرانسيس بيكون، وإيغون شيلي، والتعبيرية الألمانية زائداً عن الحاجة. كان آدم يأتي بعوالمه من الحسكة التي لم تشهد حرباً عالمية، ولم يمسخ فيها الإنسان، ولا أثر لتلك التحولات الدامية في المجتمع. لم يكن هناك تبرير مُقنع لما يفعله هذا الفنان. حتى القراءات التي ربطت بين مسوخه وتجارب لأسعد عرابي، وخزيمة علوني، كانت غير مقنعة. محاولات التنكّر كانت كثيرة، لأعمال ولدت على الضفة الثانية من النهر. أسست لخلل في بناء اللوحة، ونكهة مغايرة لحرفة غير نظيفة ومكتملة. النقص هنا كان مرادفاً للإبداع.
المتابع لأعمال سبهان آدم سيكتشف ذلك القدر من الاسترخاء الذي راحت تتّسم به منذ عام 2000. صار لكائناته خالق واحد لا يُسأل عما خلق. باتت اللوحة ثقيلة وخبيرة، صار اللون عميقاً ومؤثراً، والمسوخ بدت أكثر جرأة على الوقوف أمام العالم. لم تعد خجولة كما كانت، تحوّلت إلى قبيلة لها بطون وأفخاذ. دخل عليها اللون لكسر عتمتها وإضاءة عزلتها، ارتدت أثواباً وأردية أضافت عليها قدراً من القداسة.
بين عامي 2003 و2004، أنجز آدم مجموعة أعمال من الفحم على الورق، تجارب في البورتريه لوجوه تتأمل العالم بنظرات وتكوينات محيّرة. لكن السمة الأقوى في تجاربه اللاحقة، تحققت في اشتغاله على بناء المزيد من الفوضى واللامبالاة في تحريف الجسد وتشويهه والتعاطي مع اللون. انفلتت شخوصه من الجاذبية، وراحت تُحلق كاشفة حجماً أكبر من البشاعة الصادمة.
على مدى السنوات التي خصّص لها هذا المعرض الاستعادي، قدّم آدم نفسه بقدر كاف من الفجاجة والغضب. لم يتواطأ مع المتلقّي، ولم يأخذ في الاعتبار من أين بدأ، ولا إلى أين سيصل. استرسل في ردّ فعله القوي على حجم الوجع والضيق والكبت الوحشي الكامن في النفس. استجابت أعماله من دون قلق لما يدور في عزلته من مخاوف وتهويمات، ومضى يعمّم أرقه على العالم، وفق اقتراحات غنية ومتجددة لموضوع قد يبدو للبعض واحداً ومتكرراً هو «مسخ الكائنات» و«حيونة الإنسان».

حتى 30 حزيران (يونيو) ـــــ «صالة آرت هاوس» (المزة/ دمشق) ـــــ للاستعلام: 963116628112 +
www.arthouse.sy