مسيرة أدبيّة استثنائيّة، لمثقّف نادر جمع بين الشعر والرواية والنقد الفنّي والترجمة... وكان من علامات عصر وجيل في مسار الإبداع العربي. جمع جبرا أيضاً بين القدس وبغداد التي احترقت فيها ذاكرته قبل أسابيع
نوال العلي
جاء أمر الكتابة عن جبرا إبراهيم جبرا كمفاجأة سارّة ومربكة، كأنّ الاستدارة إلى الخلف ممنوعة بقدر ما هي مرغوبة. استعادة الكتب التي ربتنا، وكنّا كلما قرأنا لمبدع، وقعنا في هواه وحلمنا أن نسمّي أول طفل باسمه. وجبرا كان أكثر من اسم مغوٍ وآسر. قراءة جبرا في سن مبكرة هي دخول في دوامة البحث عن وليد مسعود. حالة أشبه بالبحث عن التوازن. ذلك النوع من التوازن الذي يخلخل المشي، ومن ثم الارتباك فالسقوط، ثم البحث عن توازن مرة أخرى. مع ذلك، لم ييأس جبرا من البحث في الفنون المختلفة عن حالة تقريبية. التوازن كلّه كلمة تقريبية ما زالت تفي بالغرض: «كيف تجد توازنك الذهني أو النفسي أو الاجتماعي من دون أن تشعر بأنك تقف من الإنسانية على طرف بعيد؟» (ص13).
يمثل وليد مسعود حالة «جبراوية» نموذجية راقبناها في جلّ أعمال صاحب «يوميات سراب عفان». وغالباً ما استندت هذه الحالة إلى مطارحة مفهوم الاغتراب من كلّ مكان وفي كل موضع. وهي حالة تقترحها سرديات جبرا، منطلقةً من التجربة الجمعية أولاً إلى الفردية ثانياً، على عكس من الاغتراب كما كتبه فرانز فانون في «بشرة سوداء، أقنعة بيضاء». جبرا الفلسطيني التلحمي المولد، الذي غادر بلاده بعد النكبة، ثم استقرّ في بغداد، ينطلق من وجود القضية في حياة الفلسطيني كمحرّك أساسي للأحداث. هو لا يستخدم الكليشيهات، ولا نلمح في أعماله عين الحنين المتهافتة، ولا هو بكاتب للتاريخ الفلسطيني. وجد جبرا الفلسطيني نفسه خارج المكان، على رأي إدوار سعيد، فحياته كلها خارجية الهوى، وخارج التجربة الجمعية الأصيلة. ليكون الاغتراب على مستويين فردي (النفي عن المكان تعطيل لترعرع الفرد في حاضنته الجغرافية وبالتالي الثقافية) وجمعي (تعطيل بلوغ الثقافة المحلية وصيرورتها). وما كان يفعله جبرا روائياً وشاعراً وتشكيلياً هو التعامل مع هذين المستويين ومقاومة ذلك التعطيل.
لكن هذا لا يعني أن جبرا إبراهيم جبرا كرّس أدبه للقضية الفلسطينية فقط. اكتسبت رواياته طابعاً إنسانياً مثلما هي حال الأعمال العظيمة. فقد وضع شخوصه في مآزق إنسانية وأخلاقية وفلسفية كما في «السفينة» و«الغرف الأخرى». وكان الحب والجنس موضوعاً أساسياً وأثيراً لديه. حتى إنه شارك صديقه الكاتب البعيد عن عوالم الحب عبد الرحمن منيف كتابة روايتهما «عالم بلا خرائط» رواية عن الحب بامتياز.
ولتوضيح تعلق أعمال جبرا بأثر الاغتراب الفردي والجمعي (يمكن مراجعة بحث د.حماد أبو شاويش الاغتراب في رواية «البحث عن وليد مسعود»)، نأتي سريعاً على ذكر حبكة «البحث عن وليد مسعود» كأبرز أعمال جبرا. تبدأ الرواية باختفاء مسعود بعد استشهاد ابنه مروان، واقتناعه التام بضرورة الالتحاق بالثورة. ورغم أنه ينتمي إلى طبقة بورجوازية يكتشف أن الحياة ممحلة وأن الخلاص يبدأ من الداخل، من صميم الذات. إذاً فبنية حركة العمل هي من الانكسار الجمعي إلى الفردي، إلى المقاومة الجمعية مرة أخرى، لكن المهم هنا أنها مقاومة تحدث داخل الذات.
وربما تكون ترجمات جبرا الشهيرة، رغبة تندرج تحت هذا الإطار. قدم جبرا إلى العربية «الصخب والعنف» لفوكنر، و«في انتظار غودو» لبيكيت، وأعمال تي اس اليوت، وطبعاً كتاب يان كوت «شكسبير معاصرنا». من دون أن ننسى نصوص شكسبير «هاملت» و«عطيل» و«ماكبث» و«الملك لير» وغيرها. كأن المثقف والكاتب الذي فُرض عليه الاغتراب والنفي، قرّر أن يستفيد ـــــ بل أن يستمتع ـــــ بوجوده في الثقافة واللغة الإنكليزية التي أتقنها تماماً وبها كتب عمله الروائي الأول «صيادون في شارع ضيق» (1960) الذي عرّبه محمد عصفور. ويمتد ذلك إلى التأثر بتلك الثقافة في كتابته، فمن الوارد أن يكون جبرا قد تأثر بثلاثية بول أوستر لدى كتابته «يوميات سراب عفان» (1985) التي تتشابه قليلاً في حبكتها مع ذلك العمل، من خلال التلاعب على علاقة الشخصيات بالمؤلف. وإن لم يكن أوستر فاتحاً لهذا التلاعب، فإنّ برانديللو سبق الاثنين في عمله «ست شخصيات تبحث عن مؤلف».
على أيّ حال، بدا تأثّر جبرا بالثقافة الإنكليزية جلياً في كتابته للشعر. كان صاحب «تموز في المدينة» (1959) و«المدار المغلق» (1964) و«لوعة الشمس» (1978) أحد الشركاء المؤسسين لتجربة مجلة «شِعر» الشهيرة، رغم اختلافه مع طراز القصيدة النثرية التي كتبها يوسف الخال وأنسي الحاج وغيرهما. كان ينتمي، شأنه في ذلك شأن «الشعراء التموزيين» كما سمّاهم، إلى «الشعر الحرّ» بمفهومه الأنكلوسكسوني: الشعر المتحرر من الوزن والقافية، إنما القائم على الترابط المنطقي والدلالي بين جمله وأبياته.
لقد كان جبرا مثقفاً شاملاً بحق. لم يقلّ انتماؤه للعراق عن انتمائه لفلسطين، إن لم يربُ عليه. ومنذ أن حلّ وحتى وفاته ودفنه في بغداد، كان حجراً راسخاً ومؤثراً في حراك الثقافة هناك. بل إن بيته المليء بكنوز الفن في حي المنصور في بغداد الذي تفجّر بما فيه من رسوم جبرا وكتبه وثروته الفنية، كان مزاراً ومتحفاً يرتاده كثيرون. يشهد على ذلك الناقد العراقي حاتم الصكر الذي وصفه بأنّه «فريق من الكتّاب في رجل واحد». كما أنّ له مراسلات بديعة مع بدر شاكر السياب وكتب في التشكيل العراقي، ولا سيّما عن جواد سليم. غير أنّ علاقة جبرا بالتشكيل ليست علاقة الناقد بالفن، إنها بالأحرى علاقة الفنان بالفن.

أحد مؤسّسي مجلة «شِعر»، رغم اختلافه مع القصيدة النثرية التي كتبها يوسف الخال وأنسي الحاج

التشكيل كان في دم جبرا وعلاقته به قديمة قبل العراق. بعدما عاد جبرا من دراسته في «كامبريدج» في بريطانيا سنة 1944، أسس في القدس «نادي الفن» الذي كان له أثر رغم قصر عمره على فناني فلسطين تلك الحقبة. ومن أعماله الشهيرة التي ناقشها كمال بلاطة في كتابيه «الفن الفلسطيني حقل المجهول» و«غارة جوية».
سيرة جبرا منذ ولدنة الفتى السرياني الأرثوذكسي في بيت لحم وحتى انهمار الغارات الجوية، ومسار حياته بعدها نجده مكتوباً في سيرتين هما «البئر الأولى» (1986 ــ الريّس) و«شارع الأميرات» (1994 ــ المؤسسة العربية للدراسات). ضمّت الأولى حياته في فلسطين قبل النكبة. أما الثانية فكما يشير اسمها إلى شارع في بغداد، فتحكي عن حياته في العاصمة العراقيّة. حياته لم تخل من الفجائع الشخصية، إحداها موت شقيقته الذي ترك في نفسه أثراً بالغاً. حتى إنه اعتبر أن المأساة هي سبب الفن، بل كل أسبابه.
إلى هذه المهمات الصعبة كلها التي وضعها جبرا لنفسه، أضاف النقد والدراسات في الأدب والتشكيل، فكتب «الفن والحلم والفعل» و«الأسطورة والرمز» وغيرها الكثير. وجبرا معاصرنا أيضاً، أعماله ليست من النوع الذي يهترئ، وتعتقد أنك أحببته مراهقاً ولن يعود بمقدورك إعادة قراءته مثل كتّاب كثر ما زالوا أحياء. إنّها أعمال تنتمي إلى الحداثة التي قال عنها يوماً «الحداثة العربية التي نشدتُها، وعشت بها، لم تكن يوماً هدفاً لمسعى تبلغه، فتستريح. الحداثة تطلّع مستمر، وأهميته في استمراره الذي لا ينتهي إلا حين يطبق الظلام على الكون والإنسان».


حاتم الصكر يتذكّر

كنت أمازحه: بيتك معلم يزوره السياح، مثل آثار بغداد. فما إن يفتح لك الباب، وتسير فى ممر ضيق يؤدي إلى صالة واسعة مفتوحة على غرفة أخرى إلى اليسار، حتى تحس بأنك في متحف. لوحات لجواد سليم، وشاكر حسن آل سعيد، وفائق حسن... منحوتات لمحمد غني وإسماعيل فتاح... على يمينك رفوف الكتب كلها إهداءات بخط أصحابها: السياب والبياتي وإحسان عباس وسهيل إدريس... وصور له مع أبرز أصدقائه، كعبد الرحمن منيف ويوسف الخال وتوفيق الصايغ...