في كتابه «نقد الخطاب السلفي ــ ابن تيمية نموذجاً» (دار طوى للنشر والإعلام، لندن)، يقدّم الباحث السعودي رائد السمهوري قراءة نقديةً لطروحات ابن تيمية الذي قسّم العالم إلى دار إسلام ودار حرب
ريتا فرج
لم يحدث في التاريخ العربي المعاصر أن احتلّ نتاج علمي أو فقهي موقع الصدارة في الجدال والنقد، كما حدث مع شيخ الإسلام ابن تيمية، الذي لقّبه راشد الغنوشي، الرأس المفكّر للإسلاميّين في تونس، بـ«أبو الصحوة الإسلاميّة». الاهتمام بعميد السلفيّين نابع من محورين أساسيّين: أولهما، ما تركته فتاواه التي يغلب عليها النهج التكفيري، من تأثير أفضى بعضها إلى تقسيم العالم إلى دارين: دار الإسلام ودار الحرب. والمحور الثاني هو قدرة نتاجه الفقهي على التغلغل في إيديولوجيات الحركات الإسلامية، وتحديداً السلفية، ما دفعها إلى توظيف هذا الإرث للتعامل مع التعدد الديني والمذهبي والفلسفي بمنطق الإقصاء والنبذ.
في كتابه «نقد الخطاب السلفي ـــــ ابن تيمية نموذجاً» (دار طوى للنشر والإعلام ـــــ لندن)، يقدّم رائد السمهوري حواريةً نقديةً لأهم طروحات شيخ الإسلام ابن تيمية، عن الآخر غير المسلم، والآخر المسلم، والمرأة، وغير العرب، والفلاسفة، وقواعد التوحيد، والقدرية، وتقديم النقل على العقل. وعبر منهجية التاريخ المقارن، يقارع الكاتب السعودي بلغة نقديّة مبطّنة ابن تيمية، ويسأل: مَن هو الكافر؟ وكيف نتعامل معه؟
الآخر المختلف دينياً، مثّل أوْلى معارك ابن تيمية: فالذي لم تبلغه الرسالة المحمدية، هو كافر يستحق العذاب. والمتردّد يدخل خانة التكفير أيضاً. هنا، يلحظ الباحث السعودي عدم تمييز صاحب «مجموع الفتاوى» بين الشك المنهجي القائم على النظر والاستدلال، والشك الاعتباطي... ما دفعه الى إلحاق الفلاسفة بالمُشركين في الربوبية. وقد رأى شيخ الإسلام أنّ المشرك تجب معاداته «وإن أعطاك وأحسن إليك». هو القائل: «إذا رأيتُ النصراني، أُغمض عيني كراهة أن أرى بعيني عدوّ الله». لكنّ المفارقة عنده تنبع من الخلط بين المُشركين وأهل الكتاب، إذ لم يُقم تمييزاً بينهما. فيما أقام القرآن تفريقاً واضحاً، وحدّد مسار التعامل معهم على قاعدة المهادنة حيناً والصراع حيناً آخر، ونظرت النصوص التأسيسية في الإسلام إلى النصارى واليهود باعتبارهم في دائرة التوحيد، وإن وجدت ملامح الاختلاف في مقاربة الذات الإلهية والوجود وموقع الإنسان بينهما.
يؤصّل ابن تيمية لمسائل كثيرة تتعلق بأهل الكتاب، بدءاً من وجوب إهانة غير المسلم، وصولاً إلى إذلال ما اصطُلح عليه بأهل الذمّة. تلك الفتاوى التي صاغها عميد التيار السلفي، أسّست للحراك الإسلامي الراديكالي، المنطلق من العداء للآخر غير المسلم. الهجمات الإرهابية التي شنّها الموالون لـ«القاعدة» وفروعها العابرة للقارات، أعدّوا تفجيراتهم وفقاً للتخريجة التيمية التالية «وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك». والحال أنّ مسألة تقسيم الدنيا إلى دارين، أي دار الإسلام ودار الحرب، أتت عليها الاجتهادات الفقهية لاحقاً. هذا ما أكّده الإمام الشافعي، حين رأى أنّ الدنيا كلها في الأصل دائرة واحدة، ورتّب على ذلك أحكاماً على اعتبار أن تقسيم الدنيا إلى دارين أمر طارئ.
للمرأة عند ابن تيمية حديث آخر، وهو العازف عن الزواج، والشاهد على أبرز التحولات التي شهدها الإسلام في القرون الوسطى. يحدّد السمهوري معيارين للرؤية التيمية عن المرأة، رأيه فيها من حيث الصفات، وأفكاره الفقهية المتعلقة بالجانب المدني. وفي تعقّبه لفتاوى شيخ الإسلام، يشير إلى أن المرأة عنده بحاجة إلى الوصاية. ويروي عنه حديثاً نبوياً لم يتحقق منه نصه «النساء لحم على وضم ـــــ الوضم هو الخشبة التي يوضع عليها اللحم ليقطّعه الجزار، وهي عبارة تطلق على من بلغ الغاية القصوى من الضعف ـــــ إلّا ما ذُبّ عنه»، والمرأة عند ابن تيمية ناقصة مقابل كمال الرجل.

نهجه التكفيري وراء رفض التعدّد المذهبي والفلسفي

العرب عند عميد السلفيّين هم أفضل الأمم، وأذكاها. أمّا العوامل المؤدّية إلى هذا الاصطفاء، فيوردها في مؤلفه «اقتضاء الصراط المستقيم»، ومن بينها فصاحة اللسان العربي بعد مقارنته بين خير أمة أخرجت للناس والقوميات الأخرى، نسأل: إذا كان الإسلام هو الذي أدخل العرب في التاريخ، فلماذا خرجوا من دائرته ولم يعودوا إليه؟ وإذا كان العرب أكثر أبناء الجنس البشري ألمعيةً، فأين هم اليوم من تطوّرات العلم؟ وهل تطوُّر العرب المسلمين في الأزمنة الغابرة يعود إلى سعة لغتهم، أم أن اختلاطهم بالأقوام الأخرى، وتعريبهم للفلسفة اليونانية من أبرز العوامل التي أطلقت عنان الفكر العربي؟
منهجياً، غيّب ابن تيمية القراءة التأويلية عن النص القرآني، فقال بحرفيته، ولم يجتهد في تفسيره بأسلوب يأخذ في الاعتبار أسباب النزول والقياس والمجاز، ومفهوم النسخ ووظيفته، وغيرها من آليات استنطاق النصوص المقدسة، للخروج بتأويلات جديدة تجيب في جزء منها عن الأسئلة التي يطرحها المسلمون اليوم، على ذاتهم وعلى العالم. لا شك في أنّ النصوصية التي دشّنها شيخ السلفيّين وورثته، أعطت دفعاً للقائلين بحرفية النص. حتى إن بعض الاتجاهات الغربية عدّت دين محمد «عصيّاً على التغيير بسبب نصوصيته». وحين طلب صموئيل هنتغتون من الكاتب فؤاد عجمي رأيه من موقع الإسلام في صراع الحضارات، طمأنه إلى عدم خطورته لتشرذمه وانهياره في وجه عواصف الحداثة... فهل تسعفنا فتاوى ابن تيمية في الرد على العجمي وأمثاله؟