تعود الكاتبة المصريّة برواية جديدة تغرف مادتها السرديّة من المأساة الفلسطينيّة، عبر تاريخ طويل من الهجرات والمنافي. «الطنطورية» (دار الشروق) هي القرية التي هجّرت منها رُقيّة، قرب حيفا، لتختصر ملحمة شعب بأكمله على امتداد الشتات
دينا حشمت
«حكيت النتفة التي عشتها، نتفة متشابكة مع آلاف النتف، عاشها غيري في الشهور نفسها، فهل تكتمل الحكاية إلا بهذه النتف جميعاً؟»، تتساءل راوية «الطنطورية» (دار الشروق ـــــ القاهرة)، المرأة الفلسطينية «العاديّة» التي اعتادت كتمان أحلامها. الحكاية التي أرادت رضوى عاشور أن تقصّها علينا ليست حكاية هذه المرأة دون غيرها من نساء فلسطين، بل مأساة شعب. المذابح التي تمثّل جزءاً من التاريخ الفلسطيني الحديث، تمثّل أيضاً مسار حياة رُقيّة الشخصية. بعدما لقي أبوها وأخواها حتفهم مع مقاومين في الطنطورة عام 1948، مات زوجها وابن عمها الطبيب في مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982، كما توفّيت حبيبة ابنها حسن مع أسرتها في قصف بناية في صيدا خلال السنة نفسها.
يظهر السعي إلى رواية قصة شعب في اختيار العنوان. صيغة النسب في «الطنطورية» تجعل من الراوية/ الشخصية الرئيسية، امرأة بين مئات نساء الطنطورة (24 كيلومتراً جنوب حيفا). وقد شهدت هذه البلدة إحدى أفظع مذابح النكبة، ونسفت معالمها القديمة. رُقيّة امرأة من أسرة ريفية متوسّطة، فقدت كل شيء في ذلك الصيف من سنة النكبة مثل معظم نساء فلسطين.
النص يؤكد على المشترك العام في ذلك اليوم، يوم المذبحة: ترتيبات النساء لغياب قد يطول أسابيع، حمل الضروري من الزيتون والزيت والجبن، ورؤية رقيّة جثثَ أبيها وأخويها «مكوّمة»، وولولة النساء المحشورات في شاحنة عسكرية. الترتيبات واحدة، والفزع واحد والألم والعويل، والشتات واحد أيضاً، كما يؤكد النص عبر إصرار رقيّة على اعتبار نفسها «من اللاجئين»، رغم أنّها لم تعش في مخيّم حين انتقلت إلى صيدا ثمّ بيروت.
يظهر مسعى رواية قصة الشعب الفلسطيني بأكمله أيضاً في الفصول التي تتخلّل السرد. هنا، تحكي شخصياتٌ أخرى فظائع ارتكبها الجيش الإسرائيلي والكتائب: الممرضة هنيّة التي تحكي مذبحة ملجأ أبو ياسر في 1982. شهادات جمعها ابنها الثالث عبد لمحاولة معرفة ما حدث لأبيه في مستشفى عكا. عبد الذي رفض الرحيل عن بيروت سنة 1982 مع المقاتلين، ثم اختُطف مراراً فاختار الهجرة، وأقام بعد اغترابه في باريس «مشروعاً» لجمع شهادات أهالي صبرا وشاتيلا بهدف رفع قضية ضدّ إسرائيل أمام القضاء البلجيكي.
البطلة خرجت على الإطار السياسي لتنضح بمشاعرها الأنثويّة
ليست المعاناة وذاكرة النكبة وحدهما القاسم المشترك بين أبناء الشعب الفلسطيني، بل أيضاً التراث الثقافي الذي يوحّد أبناء الداخل، وسكّان مخيمات البلدان المجاورة، والمغتربين في كندا، وقاطني الشقق الفاخرة في الخليج. في مشهد عرس حسن الذي أقيم في اليونان، لأنّ العروس من أبناء «الداخل»، نقرأ كم كان صعباً جمع أقارب يحملون جوازات مختلفة. في هذا المشهد، يتوحّد الجميع في ترديد أغانٍ فلسطينية ورقص الدبكة. تبدو إرادة رضوى عاشور واضحة، ليس فقط في إحياء التراث الثقافي الفلسطيني عبر دمجه في السرد (وهو ما قام به إبراهيم نصر الله في «زمن الخيول البيضاء»)، بل أيضاً في تأكيد نجاح الفلسطينيين في الحفاظ على وحدتهم وثقافتهم، رغم تباين الأماكن التي يعيشون فيها واختلاف منافيهم ومرور عقود على النكبة.
«اخترت قرية من الساحل الفلسطيني لأنّ الجميع يتحدّث الآن عن الضفة وغزة. قررت أن أحكي حكاية اللاجئين، لأنها أصل الحكاية»، تقول عاشور لـ«الأخبار». فكرة الرابط القوي بين الشتات وفلسطينيي الأرض المحتلة تتأكد في مشهد الرواية الأخير، حيث تذهب رقيّة مع مئات من الأهالي بعد تحرير الجنوب إلى الحدود لملاقاة فلسطينيين يعيشون تحت الاحتلال، على الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة.
هناك تلتقي ابنها حسن الذي يمدّ لها عبر الأسلاك آخر أولاده، رضيعة تضع الجدة السبعينية حول رقبتها سلسلة فيها مفتاح دارهم في «الطنطورة» الذي ورثته عن أمها. ولتكتمل رمزية المشهد، تُفاجأ في حافلة العودة إلى صيدا، بصورة رسمها لها شاب وهي ترفع الصغيرة عالياً بالمفتاح الضخم. تسأله عن سبب رسمها في ثوب فلاحي تقليدي. «هكذا رأيتك» يجيب، كأنه يتكلّم على لسان الكاتبة التي أرادت لرقيّة أن تمثّل «الـ» مرأة الفلسطينية.
لكنّ رقية تمرّدت أحياناً، رغم طابع «الطنطورية» السياسي الصريح، كأنما لتُجبر عاشور على الغوص في أدق مشاعرها الإنسانية وأكثرها تعقيداً. رقية هي أيضاً امرأة لم يكتب لها الزواج ببيحي «طرح البحر» الذي ظلّت تحلم به. امرأة لم تتذوّق مع زوجها الطيّب طعم العشق، وجمعتها بأخي صديقتها وصال قبلة محمومة ممنوعة.
امرأة تربطها بكل واحد من أبنائها علاقة معقّدة، يحكمها الحب والقلق، وأحياناً الضيق والتوتر. هذا ما يجعلها شخصية حيّة تسكن قلب القارئ، وتجسّد في وجدانه مأساة شتات وصمود شعب على مدار أكثر من ستين عاماً...