وريث الضجر السبعيني ينظّف القصيدة من الشوائب

قصائده «الأليفة» تحمل حساسيّة جيل، وبصمات منعطف أساسي في مسار الشعر العربي، وخصوصيّة عراقيّة لازمته على دروب المنفى. «التطريز بالكرز» (دار النهضة) عنوان مجموعته الجديدة التي تقول هشاشة الفرد، وتستأنف مديح العادي والمهمل، ورحلة البحث عن الضجيج الخافت

حسين بن حمزة
هاشم شفيق هو أحد شعراء نهاية السبعينيات الذين أبدتْ بواكيرهم الشعرية ضجراً ملحوظاً من الصوت العالي، والتهويلات البلاغية، والكليشيهات الأسلوبية. كسر الرواد التفعيليون الشكل التقليدي للقصيدة العربية الكلاسيكية، ثم كسر روّاد النثر بنيتها الداخلية والشعورية. لكن الأطروحات والمساعي الشعرية الجديدة وقعت في شكلانيات ومعايير خاصة بها، وبدا أنّ ما دشَّنه الرواد، ومن جاؤوا بعدهم، يحتاج إلى مغامرة أو جرعة جديدة تُنزل الشعر من علياء الشخصانية، والنبوَّة التجريدية، واللغة المجنّحة... إلى وحل الواقع، ومكابدات الإنسان الصغير واللغة الملموسة والدقيقة التي تمشي على قدمين.
صاحب «قصائد أليفة» (1980) هو ابن ذاك المنعطف الذي سيتعزّز لاحقاً بإقبال معظم شعراء الثمانينيات والتسعينيات على كتابة قصائد نثر خافتة النبرة، ومهجوسة بنثريات الحياة والسيرة الشخصية التي تطهّرت من أدران البطولة.
هكذا يستطيع القارئ أن يجد صلاتٍ لهذا الشاعر العراقي مع أقرانٍ ومجايلين عراقيين وعرب في آنٍ واحد. نتحدث هنا عن أسماء مثل: بسام حجار من لبنان، ومنذر مصري ونوري الجراح من سوريا، وغسان زقطان ووليد خازندار وزكريا محمد من فلسطين، وأمجد ناصر من الأردن. أسماء قَوِيَ حضورها مع تأخُّر شعراء أكبر سناً مثل عباس بيضون، ووديع سعادة، وسركون بولص في نشر بواكيرهم. الضجر السبعيني، بهذا المعنى، لم يكن محصوراً بشعراء البلد الواحد. القرابة بين تجارب هؤلاء وصلت حتى إلى العناوين التي اختاروها لبواكيرهم. «قصائد أليفة» (1980)، باكورة هاشم شفيق، تزامن صدورها مع «مشاغل رجل هادئ جداً» لبسام حجار. وقبلها بعام واحد، كان أمجد ناصر ومنذر مصري قد أصدرا على التوالي: «مديح لمقهى آخر»، و«بشر وتواريخ وأمكنة»، بينما أصدر نوري الجراح «الصبي» بعدهما بعامين.
إنها عناوين تسري فيها حساسية مشتركة يمكن معاينتها داخل القصائد التي مالت إلى مديح التجربة العادية، وهشاشة الحضور الفردي في العالم. مثل أقرانه، بكَّر صاحب «طيف من خزف» (1990) بالاهتداء إلى نبرةٍ تتحوَّل فيها اللحظة الحياتية والنفسية إلى لحظة شعرية، بأقل ما يمكن من الغناء المائع، والفصاحة المظفَّرة والتلفيق البلاغي. لحظة تحتفي بالجمادات والمهملات والمشهديات العادية. هذا ما نجده في ديوانه الصادر أخيراً في بيروت عن «دار النهضة» بعنوان «التطريز بالكرز». يقدم إلينا هاشم شفيق هنا، خلاصات ثمينة من ممارسته الشعرية التي تشبه التطريز. إنها مفردة قادرة على اختزال جوهر الكتابة أو مبدئها، من خلال نبرة تسعى إلى لجم أي ضجة مجانية قد تصدر عن تجاور الكلمات، وهي تؤلِّف صورةً أو استعارة. الصمت والسكينة هما ما نراهما على سطح القصيدة التي يدفن الشاعر حركتها وارتطاماتها في الأعماق. هناك رهافة مصاحبة لما نقرأه. نحس أحياناً أن القصيدة قابلة للتهشُّم لفرطِ ما هي مصقولة ومصنوعة بعناية معجمية مشددة.
لنقرأ قصيدة «تنظيف» التي يمتدح فيها ميوله الشعرية: «من عاداته/ النهوض صباحاً/ ليضع الماء للطيور/ لكنسِ أوراد الجيرانيوم الجافة/ لتهدئة النار تحت قدر الطعام/ لكنس الأحاديث المتبقية من ليلة أمس/ لغسل فناجين القهوة/ من آثار الشفاه/ لتلميع النوافذ/ ومسحها من ذروق العصافير/ ولتنظيف القصيدة من الشوائب». الخفوت والرهافة والخفة حاضرة بكثافة في الديوان. ومن قصيدة «مائدة»: «مائدة العصفور/ تتشكّل حقاً/ من بذار فواكه/ وقطرة ندى/ ما أشفَّ هذا الطعام/ ما أخفَّ هذه المأدبة/ وما أرقَّ هذه المعدة الطائرة».

قصيدة قابلة للتهشُّم لفرطِ ما صُقلت بعناية معجمية
في المقابل، تمكن الإشارة إلى الحضور القوي للهوية الشعرية العراقية لدى هاشم شفيق. المذاق العراقي يصنع له حساسيةً محكومة بشروطٍ وتقاليد أكثر صرامةً ممّا واجهها أقرانه العرب. هناك تأثيرات طبيعية للسيّاب وسعدي يوسف، فضلاً عن تسرُّباتٍ من لوركا ونيردوا وناظم حكمت، الثالوث الثوري الذي امتلك نفوذاً شعرياً قوياً في تلك الفترة. لعلَّ هذا يفسِّر تخصيص الشاعر قصيدتين مؤثرتين لشاعرين من جيله، هما خليل الأسدي والراحل رعد عبد القادر. القصد أن صاحب «غزل عربي» (2001) ظل مخلصاً لتجربته الإيقاعية، ولم يُغامر بالذهاب بعيداً في النثر، كما فعل معظم أقرانه.
بطريقة ما، يمكن القول إن هاشم شفيق كتب النثر بنكهة الإيقاع، وبالعكس. الإيقاع مرنٌ ولا نفوذ له تقريباً على حرية المعنى وحركته، لكنّ روحيّة متحفِّظة لا تزال تسري في العديد من أعماله. ويُحسب لهاشم شفيق امتلاكه معجماً واسعاً، يتقن استثماره في كتابة قصيدة قصيرة مُنجزة بضربة أسلوبية وشعورية واحدة. قصيدة يمكن أن تظل متوهّجة حتى في انشغالها بموضوعات وقضايا شديدة المباشرة. الشاعر الذي يقول: «واجبي اليوم/ أن ألعقَ الندى/ عن فخذ الربيع»، يمكنه أن يكتب في قصيدة «حصار»: «بعد أن نفد الزاد/ أكلنا الحشائش/ وحين نفدت/ لم يبق غير الشوك/ أحدُنا أكله/ أحدُنا ذبح حصانه فأكلناه/ آخر نحر كلبه/ جميعنا لم يجرِّب أكل الصخور أو قضم التلال/ لقد نفد صبرنا/ ما العمل/ لم يبقَ إلا الغزاة».