روايته الجديدة تحرّك جراح الذاكرة الجماعيّة

في «شجر الصبّار» يتجرّأ الكاتب على قراءة نقديّة لحرب تحرير الجزائر. رغم تأكيده جرائم الاستعمار، ينزع ورقة التوت عن الرواية الرسميّة للثورة ــ منبع الشرعية السياسية إلى اليوم ــ التي تصوّر الشعب بطلاً جماعياً، وقادتَه أنبياءَ معصومين، يُخرجونه من الظلمة إلى النور

ياسين تملالي
رغم انقضاء أكثرَ من 50 سنةً عليها، لا تزال حربُ التحرير (1954 ـــــ 1962) تلهم رشيد بوجدرة (1941). بعد «فندق سان جورج» (2007)، ها هي «دار البرزخ» الجزائرية، بالاشتراك مع ناشر بوجدرة الفرنسي «غراسيه»، تصدر روايته «شجر الصبّار» Les figuiers de Barbarie، رمزُ جزائر أدمى الاستعمارُ الفرنسي يديه وهو يحاول السيطرةَ عليها.
وكما هي الحالُ مع أعمال بوجدرة، يصعب تلخيصُ «الصبّار». قصتها ليست خطاً مستقيماً تنتظم فيه الأحداثُ في تسلسل زمني «منطقي». هي تسجيلٌ لحوار ذهني صامت، بين صديقين التقيا في طائرة، فاسترجعا ذكريات صباهما والتحاقهما بجبهة التحرير الوطني. في هذا الحوار ذي الهدف التطهري، يتعمد أحدُهما، الراوي رشيد، الضغطَ على جراح قديمة غائرة في نفسه ونفس رفيقه (وابن عمه) عمر.
على طريقة المحلّلين النفسيّين، يدعو رشيد صديقه إلى التخلّص من أشباحه بمواجهتها، فالفكاكُ من الماضي مرهونٌ بإطلاق العنان لذاكرته: هل حقاً تعاون والدُه، محافظُ الشرطة المتفرنس، مع الثوّار؟ وإن فعل ذلك، فهل عن اقتناع أم عن خوف من انتقامهم؟ ما الذي دفع أخاه إلى الانخراط في منظمة الجيش السري (OAS) التي أنشأها عام 1961 غلاةُ «الأقدام السوداء» (أوروبيّو الجزائر) الرافضون للاستقلال؟ وما سرُّ حميته في تقتيل إخوانه المستعمَرين؟
قد يكون وقوعُ هذا الحوار في الجو، إشارةً إلى صعوبة حدوثه في بلاد لا يزال فيها تاريخُ الثورة الرسمي منبعَ الشرعية السياسية. أما وجهة الطائرة التي جمعت رشيد وعمر ـــــ مدينة قسنطينة ـــــ فرمزُ العودة إلى الماضي، ومغامراته الإيروسية الساخنة، وصدماته العنيفة التي فتحت أعينَهما على وضع استعماري لا يمكن تجاهله، رغم انتمائهما إلى عائلة ميسورة.
في روايته السابقة «فندق سان جورج»، تطرّق بوجدرة إلى ممارسات الجيش الفرنسي الوحشية ضد الثوّار الجزائريين، عبر قصة فنان حوّلته الحرب إلى صانع توابيت في خدمة الجلادين. أما «الصبار» فتتطرق إلى جرائم الاستعمار منذ بداياته عام 1830. لكنّ فظائعَ «حرب الإخوة الأعداء» حاضرة أيضاً: إعدامُ أحد أبرز قادة الثورة، رمضان عبان، على أيدي رفاق السلاح، واغتيال مئات الطلبة ممن نجحت الاستخباراتُ الاستعمارية في تصويرهم لدى بعض ضباط جبهة التحرير جواسيسَ مندسّين.
هذه الأحداثُ الحقيقية المحكية على لسان رشيد، تأتي دليلاً على أنّه لا فصلَ بين الحميمي والسياسي، بين الخاص والعام، إلا في تاريخ وهمي يصوّر الشعبَ بطلاً جماعياً، وقادتَه أنبياءَ معصومين. أقوى رمز في الرواية تعبيراً عن تعقّد «التاريخ الحقيقي» هو تباينُ الهويات السياسية لأفراد أسرة عمر: مناضلان مقتنعان بضرورة الاستقلال، ومحافظُ شرطة وضعته الثورة أمام مسؤولياته الوطنية، وحليفٌ صريح للعدو التحق بأكثر تنظيمات الأقدام السوداء وعنصرية.
ليس التاريخُ في «الصبار» إطاراً عاماً للحكي. هو موضوعُ استنطاق يدمّر «أسطورة الأسلاف» الميامين ليسلّط الضوءَ على شخصيّتين قلقتين ابتلعت الحرب أحلامَهما. وكما في نصوصه الأخرى التي فضحت أكاذيبَ التاريخ المتوارثة، سعى بوجدرة هنا إلى فضح تهافت الرواية الرسمية لمعركة التحرير. رواية لا أثر فيها لما عاصره رشيد من تصفية حسابات داخلية.

التشكيك في «طهرانيّة» الثورة، لا في «ضرورتها» كما فعلت أبواق اليمين الفرنسي
لا يذكر التاريخُ الرسمي غيرَ المنتصرين (جناح جبهة التحرير الذي استولى على السلطة في صيف 1962). ويصوّر محاربي الاستقلال، على تباين مساراتهم، مثاليين خالصين باعوا الدنيا بأمل الاستشهاد. أما «التاريخُ الحقيقي» الذي تختزن ذاكرةُ الراوي شذراته، فيذكر المنسيَ والمسكوتَ عنه، كاستشهاد المناضلين الشيوعيين فرنان إيفتون وهنري مايو. ويقرّ بأن دوافعَ حمل السلاح لم تكن دائماً مثاليةً، فمن الثوار مَن وجد، كعمر، في الجبال مهرباً من أسرة تعج بالعملاء. ماذا صنعت الجزائرُ باستقلالها؟ يتساءل رشيد وعمر ويجيبان: نصبت مكانَ متسلّطي الأمس، متسلطين جدداً تحكموا في مقدراتها باسم «مُثُل نوفمبر 1954»، فدفعوا بالشباب دفعاً إلى الشوارع كما في تشرين الأول/ أكتوبر 1988. هذه الانتفاضةُ التي حطمت نظام الحزب الواحد، تبدو في «الصبّار» تواصلاً لخيط رفيع لم ينقطع، خيط الثورات الشعبية الجزائرية، واستئنافاً لانتفاضة 8 أيّار/ مايو 1945 التي قوّضت وهم إصلاح الوضع الاستعماري وأقنعت الحركةَ الوطنية بضرورة الكفاح المسلح.
وإذا كانت تيمة الثورة المغدورة من ثوابت الروايات الجزائرية، فإن بوجدرة يعالجها هنا بالتوازي مع تيمة فظائع الاحتلال. هذا ما يميّز نصّه عن أعمال أخرى («قَسَم البرابرة» لبوعلام صنصال مثلاً)، تعللت بإعادة قراءة الماضي للتنقيب عن محاسنَ مزعومة «للحضور الفرنسي» في الجزائر. أما صاحب «التطليق»، فلا تعارضَ لديه بين كتابة «التاريخ الحقيقي» والإشادة بضرورة الثورة. بل إنّه بصراحته المعهودة، لم يتحرج من الاعتراف بأنّ لـ«الصبّار» وظيفةً إيديولوجيةً محددة هي «الرد على بعض الكتاب الذين يكتبون من المنظور الكولونيالي لليمين الرجعي الحاكم في فرنسا»، و«يشكّكون في جدوى حرب التحرير والاستقلال».