الفن الإيراني في مواجهة التاريخدبي ــ حازم سليمان
سيبدو التاريخ مختلفاً. استحضاره بمزاجية اثنين من علامات المشهد التشكيلي الحديث في إيران، يضعنا أمام قراءات تبدو متناقضة للوهلة الأولى، لكن بكثير من الغواية، تستدرجنا إلى قلق مستتر خلف جماليات بصرية وألوان وكولاج وتوثيق حقيقي ومشوّه بتصرّف فنيّ ساخر. معرض «الوسط لا يُحتمل» يجسّد هذه المقولة تماماً. عبر 20 لوحة، سنكون أمام تطرّف إبداعي، وأعمال تحمل نكهة أحمد نازار، وخصوصيّة خسرو حسن زاده.
المعرض الذي تحتضنه «غاليري بي 21» في دبي يحيلنا على هدم ثنائي: الأول لتواريخ مفصلية في تحوّلات المجتمع الإيراني خلال السنوات العشر الأخيرة، والثاني للهالة والقدسية اللتين قد يتسم بهما تاريخ شعب. الهدم هنا لا يأخذ بعداً سلبياً، بل يؤكد ضرورة أن يتّخذ الفن موقفاً من التاريخ وفقاً لنتائجه الراهنة. خلق مسافة احترازية بين أعمال المعرض ومرجعيتها، حرّرها من فخّ التوثيق المباشر، رغم أنّ التوثيق يتخذ قيمة إبداعية خاصة في تجارب زاده، الذي اشتهر بولائه للبطولات الشعبية.
المعلّم أحمد نازار (1964) يقدم هنا أعمالاً قوامها الحركة حتى الفوضى. تقشّفه اللوني واشتغاله على الأسود والأبيض يعطيان لوحته ثقلاً بصرياً يتوازى مع موضوعه المحبّب: صراع الخير والشر. يختبر القناعات الشخصية، ويعيد النظر في مبادئ بلغت طريقاً مسدوداً. رجال يضعون واقياً ذكرياً على رؤوسهم، وكائنات تمسخ في رحلة زمنية مفتوحة. سنرى أثراً لجيش الإسكندر المقدوني، وأقنعة من الآثار الإيرانية قبل الإسلام، ومصارعاً، وجندياً، وشبح الغرب. فوضى عارمة تحيلنا على مجتمع لم يتوقف التاريخ عن امتحانه.
في أعمال نازار، لا يأخذ الخير والشر بعداً أخلاقياً. بانوراما بشرية تنهض من تقاليد كلاسيكية في الرسم، ثم تنقلب على نفسها. يصير الاختزال والتلميح عبر تقنيات الـ «سكيتش» ميزةً جوهريةً.
مرثيّة بصرية لعالم مغمور من البشر والأحداث
تفكّك لوحة نازار فسيفساء الزمن. يربط تأثيرات الشاهنامة (كتاب الملوك) برجل «متعصرن» يقرأ كافكا في دورة المياه. شخصيّات نصفها في الحاضر، والنصف الآخر يسترق النظر إلى جيوش الإسكندر الآتية من خلف الجبال. أزمة انتخابات 2009 تتجسّد في معركة بين مصارع فارسي تقليدي ورجل بربطة عنق. يوظّف نازار أدواته لإنجاز ربط بصري وذهني بين ماضٍ عريق وحاضر مضطرب. تؤسس أعماله لحيرة مركّبة تبلغ حد التعقيد. يقول نازار «لدينا صراعنا الخاص: التاريخ، والحاضر، والمستقبل، عناصر مؤثرة في كفاحنا لخلق مساواة بين عراقة نادرة وواقع مضطرب». خسرو زاده (1964) المدلّل في المزادات العالمية، لم يغادر مشروعه البصري الأثير. يدخل التاريخ من بوابته الشعبية، ويجسّد بالـ «كيتش» أساطير الناس الصغيرة. عوالم واقعية مختارة بعناية، ورجال يفتلون شواربهم على المقاهي، ويحملون سكاكين على خصورهم. أعماله تنبش في تشكّلات الذاكرة، وتبحث في مفاهيم ملتبسة ومشوّشة عبر مشهديات تستفيد من اللون، والإضاءة لتحيلنا على شخصيات مغمورة صنعت بطولاتها الخاصة. تستمد أعمال زاده طاقة تعبيرية خاصة، وولاؤها المفرط للحياة اليومية يمنحها بعداً وجودياً مؤثراً.
منذ التسعينيات، أنجز زاده تجارب محمولة بقوة سينوغرافية درامية، ومرجعيات تاريخية وميثولوجية. تعبيراته السينوغرافية تقترب من المشاهد المسرحية. تشخيصاته لـ «قبضايات المقاهي»، والمطربين الشعبيين يدعمها بمفردات إنشائية، ومستخدمات فنية وموضوعية. يصير العمل وحدةً حياتية مكتملة العناصر، يعيد تشكيل ذاكرة جديدة لحضور بشري عابر... كأنها مرثيّة بصرية لعالم مغمور من البشر والأحداث، اختار لها زاده فضاءً تعبيرياً خاصاً يتجاوز الرسم والتشكيل إلى بنائية بصرية قوامها التفصيل والتسجيل، وطرح مفاهيم مبتكرة في جماليات العمل الفني.

حتى 20 تموز (يوليو) ـــــ «غاليري بي21» (دبي) ــ للاستعلام: +97143235052