«طرطوف» العربي غطّى النهد بمحفظة النقوددمشق ــ خليل صويلح
قبل سنتين، فوجئ جبر علوان باختفاء لوحته غير المكتملة من ساحة المتحف الوطني في دمشق، خلال ورشة عمل في الهواء الطلق. يومها، تبيّن أنّ موظفة في المتحف احتجّت على جرأة اللوحة التي تمثّل نموذجاً عارياً، فأدارت اللوحة إلى الخلف، ووضعتها في زاوية مهملة تصعب على الزائر رؤيتها. وحين احتج التشكيلي العراقي، كانت الإجابة الرسمية «تنبغي مراعاة الذوق العام».
«مراعاة الذوق العام» قاعدة تتقدّم بثقة في الحياة الثقافيّة السوريّة. الزائر الذي يعرف المتحف الوطني، سيلاحظ اليوم اختفاء تمثال تدمري لامرأة عارية كان يزيّن مدخل المتحف. هناك إذاً حرب معلنة على الفن العاري: ففي المعرض السنوي للتشكيل السوري، أوصى القائمون على إدارة المعرض بمنع مشاركة أي لوحة تخدش الحياء، كذلك تمتنع صالات العرض الخاصة عن إقامة معارض تحتوي لوحات عارية.
هكذا عجزت هالة الفيصل عن إقامة معرضها الأخير في أيٍّ من الصالات الخاصة، فلجأت أخيراً إلى صالة المركز الثقافي الفرنسي. من جهتها، وجدت سارة شمة في المعارض الدولية ملاذاً لأعمالها العارية. لكن مهلاً، ألم تمتنع المطابع الدمشقية، منذ أشهر، عن طباعة كاتالوغ لأعمال أسعد عرابي بالذريعة نفسها؟ «طرطوف» بطل موليير الشهير جاء بورعه الكاذب إلى دمشق ليضع معايير جديدة للذوق العام تتناسب مع حاجات السوق!
لن نجد في ملتقيات النحت المتعاقبة نصباً واقعيّاً واحداًً. أشكال تجريدية لا تعبّر عن جوهر النحت السوري القديم، تزيّن ساحات المدن. وحين نتساءل عن غياب تمثال للشاعر نزار قباني، في الشارع الذي يحمل اسمه، لن نحظى بإجابة مقنعة. بالطبع، لن نعيد السؤال مرةً أخرى عن غياب الموديل العاري في كلية الفنون الجميلة: الموديل الذي كان أمراً اعتيادياً في الستينيات ومطلع السبعينيات. لقد بات مؤكداً أنّ المسألة تتعلّق بالحلال والحرام، وصعود طبقة اجتماعية جديدة على أشلاء الطبقة الوسطى المندحرة. طبقة هجينة تكونت ملامحها مع فورة النفط في منتصف السبعينيات، واكتملت مفاهيمها الجمالية اليوم. وإذا بالتشكيل السوري يذهب إلى منطقة أخرى ذات طابع تزييني صرف، يتواءم مع تطلّعات هذه الطبقة ومفهومها الجمالي. حتى إن تشكيلياً مرموقاً مثل نذير نبعة، وجد نفسه أسيراً لتطلعات هذه الشريحة، فغرق حقبةً من حياته في إنجاز أعمال تزيينية، انتهت إلى صالونات محدثي النعمة الجدد. لعله لم يقصد ذلك تماماً، لكن هذه الشريحة استقطبت أعماله، فيما كان علينا أن نقرأ خبر دخول لؤي كيالي إلى مصحة نفسيّة، ثم فاجعة انتحاره المدوّية (بيعت لوحة له بمئة ألف دولار).
اليوم، غزت الساحة التشكيلية طبقة مقتنين أكثر ثراءً، فراحت تفتّش عن أعمال الروّاد الكبار، وإذا بورشات من الهواة تزوِّر عشرات اللوحات لفاتح المدرس، من دون أن يكتشف هؤلاء المقتنون أنّ الأعمال التي تزيّن جدران قصورهم مزوّرة، فالمهم هنا، توقيع الفنان، لا خطوطه وألوانه الأصلية. كذلك يتردّد في الكواليس أخبار عن اختفاء معظم لوحات الروّاد من مستودعات مديرية الفنون الجميلة، ومن الصعب علينا أن نتأكّد من صحّة هذه الأخبار في غياب سجل كامل ودقيق لمقتنيات وزارة الثقافة، يوثّق تاريخ التشكيل السوري.
كان فاتح المدرس، الذي تمرّ ذكرى غيابه العاشرة هذه الأيام، يمنح لوحته لمن يرغبها بمبلغٍ رمزي، إيماناً منه بقيم ثقافية تتواشج مع أفكاره. وها هي لوحته تصل اليوم إلى أسعار خيالية، بوجود غاليريات جديدة، أدخلت اللوحة السورية في المزاد، بألعاب بهلوانية. لكن الأزمة المالية العالمية كبحت هذه الموجة إلى حد ما، ووجد التشكيليون الذين انخرطوا في هذه الموجة، أنفسهم، في ورطة حقيقية. ذلك أن الأسعار الجديدة للوحاتهم، لم تكن أكثر من غيمة صيف عابرة. كذلك انسحب بعضهم

تشكيليون سوريون فسخوا عقودهم مع «أيام»، احتجاجاً على تسليع أعمالهم

أمثال يوسف عبدلكي، ومنير شعراني، وفادي يازجي، من العقود التي وقّعوها مع صالة «أيام»، احتجاجاً على حال التسليع التي روّجتها الغاليري لأعمالهم بإدخالها في مزاد «كريستيز» في دبي، وإعلان أسعار خيالية لأعمال متواضعة، على حساب أعمال أخرى أكثر أهمية وأصالة، تبعاً لأمزجة أصحاب هذه الصالات، ما أضاع البوصلة الحقيقية لتوجهات المحترف السوري.
لن نستغرب إذاً، موجة الحروفية المرغوبة خليجياً التي انخرط فيها تشكيلي مهم ولافت مثل أحمد معلا، أو اللوحات الطرقية التي تحمل صورة ضخمة لسبهان آدم، في إعلان عن معرض استعادي له، وبيع لوحاته بالجملة بقيمة ألف دولار للوحة الواحدة، في أوكازيون سنوي، معتمداً على غزارته في الإنتاج، في أعمال مكررة ومتشابهة. كذلك سُتنشر حادثة سرقة اقترفها ناقد تشكيلي شاب، قبل سنتين، في صفحة الحوادث باعتبارها عملاً جنائياً. انتبه هذا الناقد إلى تعطّش أصحاب الغاليريات إلى اقتناء أعمال الرواد، فراقب جدران قاعة للندوات في جامعة دمشق، ووقع اختياره على عملين للراحل محمود حمّاد، وتمكّن من تهريبهما من باب خلفي للصالة. لكنه انتهى إلى السجن. تروى هذه الحادثة الواقعية من باب الطرائف، لكنها تنطوي في العمق على سلوك أخلاقي يمجّد «البزنس» على ما عداه، وراء تلك الفورة التشكيلية. هل يمكن الكلام هنا عن «نهضة ثقافيّة»، فيما لا نجد أي أثر لتلك «الفورة» في الحياة الإبداعيّة عامة، أي في المسرح والسينما والكتاب؟