يأتينا صوت عبد الوهاب الملّوح من منطقةٍ لم تعد مغرية بالنسبة إلى الشعراء الجدد. في وقتٍ يغرف فيه أغلب هؤلاء من نثر الحياة اليومية، يدعونا هذا الشاعر التونسي إلى طموحاتٍ مختلفة. القصيدة هنا غير منجزة بالكلام العادي، وغير محكومة بالقفلة الشعرية المفاجئة التي يُفترض أن تضيء كل ما يسبقها من سطور شحيحة بالشعر. نتحدث هنا عن اختلاف إجرائي، عن كتابة شائعة باتت تثير الضجر إن لم نقل الغثيان أحياناً. لكن هذا النموذج الذي يُصرِّح باختلافه لا ينجو من ملاحظات ومشكلات تخصّه أيضاً. الواقع أن الكتابة خارج اليومي تتضمن مخاطرة الوقوع في أسر نموذج شعري آخر وصلت معظم تجاربه إلى طريق مسدود، وخصوصاً تلك المكتوبة بلغة متفاصحة، ومصحوبة بتهويلاتٍ بلاغية وعاطفية. بهذا المعنى، يمكن القول إن مجموعة «الليل وحده دائماً» (دار النهضة ـــــ بيروت)، وهي الخامسة له، تضع ممارسة عبد الوهاب الملوح خارج اليومي، لكنّها تظل مهددة بمعايير كتابة أخرى. لعل هذا يفسر عناية الشاعر بتشكيل أغلب قصائده حرفاً حرفاً. كأنه يضيف جزالةً إضافية إلى لغته الجزلة أصلاً: «البارحة/ نزلتْ تستحمّ في مخيلة النهر/ لاحتْ كاستعارةٍ مضمومة في وردةٍ مقصوفة الرقبة/ تلقّفها الظلام بمنشفته/ مشتْ بنعالِ حلمٍ طريٍّ تقلِّد خطوات امرأة عاشقة/ ومكنسة الغبطة تعدُّ لها في مسوّدة الدهشة معجماً ...». إنها لغة أكثر تعقيداً ودسامةً مما نقرأه في شعرية التفاصيل اليومية. لا يبتعد الشاعر عن مجايليه اليوميين في ذكاء اللغة وصفاء النبرة، لكنه يفعل ذلك بلغة لا تُدير ظهرها لحساسية اللغة العربية. بل إن اللغة تصبح مكوناً من مكونات القصيدة.
هكذا، نقرأ جملة مثل «يُطمئنني النثرُ حين أفزعُ إليه في شبهِ يقينٍ لأنه المنفى الأخير هرباً من عاطفةٍ ترتابُ مني ومن برْد الفقدان»، أو «أما السفن التي أضاعت طريق التوابل/ ستقتفي أثر الإبل في لامية الشنفرى/ والنصوص المتمردة على الأسلوب».
هناك مذاق قديم وعريقٌ في هذه اللغة التي يُراهن الشاعر على صلاحيتها لكتابة قصيدة نثرٍ عصرية ومقنعة. صحيح أن هذه اللغة تجلب معها ممارساتٍ مكرورة وغير محبَّذة، كما هي الحال في مزج المحسوس بالمجرد: «ميتافيزيقيا الوصول، غيبوبة النهار، رغوة الحقيقة، بغتة الفوانيس ...». لكن القارئ لا يستطيع تجاهل العذوبة التي تسري في أغلب القصائد.
حسين...