الشعر المحكيّ «لا يتشكّل في الأطر التي قام عليها الزجل، بل يكتسب أهميّته في سياق التحولات التي عرفتها الفصحى». ولعلّه ازداد تعقيداً، كما يلاحظ حمزة عبّود، في مقدّمة الحلقة الثانية والأخيرة من مشروعه الطويل في رصد المشهد الشعري اللبناني منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم
حسين بن حمزة
في «مختارات من الشعر العامي» («دار الفارابي»، «بيروت عاصمة عالمية للكتاب»)، يواصل حمزة عبّود مشروعه الأنطولوجي «ديوان الشعر اللبناني» الذي صدر جزؤه الأول الخاص بشعراء الفصحى قبل عامين («الفارابي» بالتعاون مع «الأونيسكو»). هكذا يكتمل المشروع الذي اشتغل عليه الشاعر حمزة عبود طويلاً، وبات بين أيدي القراء والنقاد مرجع شبه شامل عن المشهد الشعري اللبناني منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم.
الواقع أن إنجاز جزءٍ خاص بشعراء العامية هو اعترافٌ بديهي بأن الشعر اللبناني يحلِّق بجناحي الفصحى والعامية، مع الاعتراف باختلاف حجم الجناحين وقوتهما طبعاً. صحيح أن أغلب ما كتب بالعامية ظلّ محصوراً بالزجل والأغنية والتقاليد الشعبية والفولكلورية، إلا أن بعض التجارب تخلّت عن بيئة الزجل الضيقة، وعاشت في المختبر الحداثي والطليعي الذي شهد تطور شعر الفصحى. بهذا المعنى، يمكن تقسيم شعر العامية إلى تجارب تغذَّت ولا تزال من فنّ القوالين والزجالين التقليدي، وتجارب احتكّت بأسئلة الحداثة التي طرحها شعراء الفصحى. هكذا، راحت بعض التجارب ــــ وخصوصاً التي ظهرت في السيتينات وما بعدها ــــ تتخفّف من معايير الزجل لمصلحة كتابةٍ شعرية تبحث عن هوية وطبائع أخرى. وصار هؤلاء يفضِّلون إطلاق اسم «الشعر المحكي» على ممارساتهم تمييزاً لها عن «شعر الزجل». رغبة هؤلاء في أن يكونوا حديثين كانت تتنافى مع شعبية الزجل التي تعطيه مرتبةً أدنى. وهو تفريق يشير إليه حمزة عبود في مقدمة الديوان. إذْ يرى أن اللغة المحكية لدى هؤلاء «لا تتشكّل في الأطر التي قام عليها الزجل، بل تكتسب أهميّتها في سياق التحولات التي عرفتها قصيدة الفصحى».
ويشير في مكان آخر إلى أنّ القصيدة المحكية تخلّصت من أغلب السمات الملازمة للشعر الزجلي، وباتت تتحلى بـ«بنية خاصة أكثر تعقيداً تتحدد ملامحها في فضاء التجربة الشعرية».
الواقع أن شعراء الزجل أنفسهم يقرُّون بوجود تجارب بالعامية غير محكومة بمعايير الزجل وأوزانه. أغلب الزجل مكتوب بمنطق الشطرين والقافية الشبيه ببحور الشعر الكلاسيكي، بينما شعراء المحكية كتبوا بمعايير قصيدة التفعيلة التي كسرت تجاربها الفصيحة عمود الشعر العربي.
ثلاثون شاعراً يمثلون أبرز التجارب والاتجاهات في اللغة المحكيّة
اختار حمزة عبود ثلاثين شاعراً «يمثلون أبرز الاتجاهات والتجارب التي شكّلت مشهد الشعر العامي في لبنان». أنصف الزجالين، لكنه ميَّز شعراء المحكية عنهم. القارئ أيضاً لا ينجو من هذا التمييز. إذْ سرعان ما يلاحظ أن الزجل شيء والقصيدة المحكية شيء آخر. لكن هذا لا يلخِّص مادة الكتاب الشديدة الثراء والتنوع. إننا مدعوون إلى رحلة طويلة ومتشعبة في أنطولوجيا الكتابة بالعامية. ثمة تطورات وحساسيات ونبرات مختلفة تتناهى إلينا ونحن ننتقل من زجّال إلى زجّال ومن شاعر إلى آخر. نعود إلى نصوص الرعيل الأول أمثال: أسعد السبعلي وعلي الحاج القماطي وزغلول الدامور وخليل روكز وزين شعيب...، حيث الكتابة مرهونة بالارتجال والمهارة، ومخلصة للتشطير والوزن الصارم، وتحضر فيها جماليات الطبيعة اللبنانية والمفردات الريفية والأغراض التقليدية كالفخر والمديح والرثاء والغزل والوصف، إضافة إلى المباريات التي كانت تُعقد بين جوقات الزجالين. لنقرأ هذه الأبيات التي يفخر فيها زغلول الدامور بوطنه: «لبنان يا موطني يا زينة البلدان/ بيّي عا حبُّك رِبي وربَّاني/ وقلّي يا إبني افتخرْ إنك إنت انسان/ من هالضياع البلا تكليف خلقاني/ (...)/ والأرز يّلي قبل عمر البشر خلقان/ مغارة قاديشا قالتلو قول بلساني/ عا هيك لوحة رسمها مبدع الأكوان/ لا شك الله الْخلق لبنان لبناني».
هذه التراتبية الإيقاعية المكرورة ستشهد انقلابات متعددة بالانتقال إلى الجيل التالي الذي شهد البدايات المبكرة لانشقاق الشعر العامي عن الزجل، وتجلى ذلك في أعمال: سعيد عقل وميشال طراد والأخوين رحباني وموريس عواد وطلال حيدر وإيليا أبو شديد... إذ صار الشعر نصاً مثقفاً ذا حساسية أكثر تعقيداً من الغناء الريفي أو الجبلي، كما هي الحال في قول سعيد عقل: «مرة سمعتْ عصفور شو مهموك/ مسلطن وعم يخطب ويتجلّى/ يقلّو لابنو: طير وتعلّى/ فتافيت خبز قلال بيقدّوك/ بس السما رح تلزمكْ كلّا». أو في قول طلال حيدر: «بغيبتك نزل الشتي/ قومي اطلعي عالبال/ في فوق سجادة صلا/ والعم بيصلوا قلال/ صوتن متل مصر المرا/ وبعلبك الرجّال/ ع كتر ما طلع العشب بيناتنا/ بيرعى الغزال».
ثم جاءت أصوات أخرى أخذت المحكية إلى فضاءات لغوية تستثمر علاقات النثر وحساسيات الشعر اليومي. في تجارب هؤلاء، يمكن القول إن المحكية انتقلت من فضاء الشعر المنفلت إلى فضاء القصيدة المحسوب بدقة. نجد ذلك في أعمال عصام العبدالله وجوزيف أبي ضاهر وجرمانوس جرمانوس وقزحيا ساسين. لنقرأ قصيدة «دير» لأبي ضاهر: «حبسوا الصَّلا بْ كتاب/ سمّو ديرْ/ وع دْوايرو صفّو شمع يبكي/ والدير/ كان مهجور ما في غيرْ/ قبِّي/ وما جابولا جرس يحكي».
لعل الترتيب الأبجدي للأسماء الموجودة في الأنطولوجيا يخلخل التطور الذي حدث للكتابة بالعامية، لكن ذلك لا يحجب عن القارئ أن شعراء المحكية باتوا أقرب إلى شعراء الفصحى من «زملائهم» الزجّالين.