أفلت من محاولات القتل المعنوي، ورفض تصنيم النصوص، مدافعاً عن المسافة الضروريّة بين الجامع والجامعة... ثم جاء مرض غامض ليضع حداً لمشروعه المميّز وهو في عزّ العطاء
وائل عبد الفتاح
الفيروس الإندونيسي اختار نصر حامد أبو زيد (1943ـــــ2010). تسرّب إلى خلايا المخ واستولى بغموضه القاتل على من فشل قنّاصة التفكير في تحويله إلى أيقونة الكفر الحديثة. شهوة القناصة اشتعلت ضدّ نصر، وعلّقوا له المشانق، وأقاموا متاريس التحريم لمنعه من الوصول إلى منصات أعلى تأثيراً. العقاب على الخروج من البحيرة الراكدة إلى البحيرة المحرّمة، لم يكن عقاباً إدارياً، بل محاولة قتل معنوي (عبر اتهامه بالكفر وتطليقه من زوجته باعتباره مرتدّاً عن الإسلام)، والتحريض على القتل بيد مجنون مهووس بإسالة الدماء، ليثبت نقاوة عقيدته.
انتصر أبو زيد وبقي حياً، بعدما أصبح رمزاً في معركة بين التجديد والتخلّف في الجامع، بين عبادة النص والتفكير فيه وفهمه. دخل أبو زيد عش الدبابير الفقهية، من دون أقنعة ولا ملابس تنكرية. دخله بملابس المثقف الحديث، ونافس كهنته بالعدّة الحديثة. هتفوا ضده: «مرتدّ... مرتدّ»، وحاسبوه بقيم الثقافة الشفاهية وثقافة الطاعة في الجامع، لا قيم الكتابة وثقافة الأسئلة والشك في الجامعة.
مصر زارته في الكوابيس الليلية حين خرج في التاسعة والنصف من مساء 23 تموز (يوليو) 1995 من بيته في الحي المتميز في مدينة 6 أكتوبر إلى مطار القاهرة، ومنه إلى أمستردام، لتبدأ رحلة الغربة، التي كانت أقرب إلى «منفى ثقافي»، بعدما اتفق جميع الأطراف (الحكومة والمثقفون والإسلاميون) على أنّ خروجه من مصر كان الحل المثالي حتّى لا يتورط أحد في الصراع، وتستمر اتفاقات التوازن الهشّة.
خروجه كان في ذكرى الاحتفال بثورة الضباط الأحرار. وكان هذا مجال ضحك كبير بيننا، فهو ابن جيل تربّى وعيه على التناقض بين الإخلاص للمشروع السياسي والحرية... وبين فتح الطريق أمام أحلام الإنسان العادي لتجاوز واقعه، وتحكّم السلطة في كل المقدّرات الشخصية لأيّ مواطن. وبنفسية مقاتل لازمته في مراحل حياته، كانت محطة هولندا مرحلة انطلاق جديدة للتفكير... والانفتاح على أفكار عالم صاخب بالأفكار والحيوية المدهشة (شغل في جامعة برلين كرسيّاً خاصاً يحمل اسم فيلسوف عربي آخر عانى الاضطهاد، هو ابن رشد).
في قريته قحافة، عَرَف نصر أبو زيد المسؤولية في سنّ مبكرة بعد موت الأب، حيث أصبح المسؤول عن العائلة. اكتفى وقتها بنصيب متوسّط من التعليم، وبدأ البحث عن عمل (كانت مطافئ طنطا أكثر هذه الأعمال استقراراً)... تعرّف إلى الإخوان المسلمين، وبدأ يخطب الجمعة، وظلّ يُعرف هناك حتّى وقت قريب باسم «الشيخ نصر». كانت الجامعة بالنسبة إليه ملعباً من ملاعب انتصاره في الحياة والحرية. دخلها عام 1968 في سنّ متقدمة حين كان في الخامسة والعشرين. تفوّق وتخرّج بامتياز ومرتبة شرف، وكاد يضيع حقه في التعيين في السلك الجامعي (بسبب أحلام رشاد رشدي في بسط هيمنة قسم الإنكليزي على الجامعة). لكنه قابل رئيس الجامعة، وظل يلحّ في الدفاع عن حقه حتى ناله هو وزملاء دفعته... ثمّ، عندما اختار فرع الدراسات الإسلامية ليكون محور دراساته العليا، اعترض مجلس القسم (كانت بداية سيطرة الوعّاظ وعمائم ضيّقي الأفق)... وخرج نصر من المعارك باحثاً متميزاً، يؤمن بحرية البحث العلمي. ورغم أنه لم يخرج عن حدود الإيمان، إلى درجة أنه وُصف أحياناً بأنّه أصولي و«شيخ...»، فإنّ تصديقه فكرة الجامعة، وانحيازه إلى قيمة التفكير، جعلاه يتجاوز الخطوط الحمر، في عصر لا تهتم الجامعة فيه إلّا بتخريج جيوش من الجهلة الحاملين لشهادات علمية.
«الشيخ نصر» عاد ليموت في القاهرة. سيرة انتهت بالفيروس الإندونيسي، الذي لم يكن في حسبان الهارب من مصائد التفكير...