بيار أبي صعبمنذ تلك الواقعة العبثيّة التي غيّرت مجرى حياته، وعرّضته للتنكيل الشرعي والقانوني، تذكّر مأساة نصر حامد أبو زيد بمعاناة زميل شهير له، من القرن الـ17. إنّه غاليليه الذي جعله بريخت، في القرن الـ 20، بطلاً لمسرحيّة اشتغل عليها عشرين عاماً، ولم يصل إلى صيغتها النهائيّة إلّا في أواسط الخمسينيات (بعد تجربته مع المكارثية). كان ذلك في أزمنة محاكم التفتيش الأوروبيّة، وتسلّط الكنيسة على المعرفة، حين واصل الفلكي والفيزيائي الإيطالي أبحاثه حسب نظريّة كوبرنيك التي تقول بدوران الأرض حول الشمس. وجدت المؤسسة الدينيّة في تلك الأطروحة، آنذاك، تناقضاً مع التفسير اللاهوتي للعهد القديم، ورمت صاحبها بالهرطقة، وجرّدته من امتيازاته. وفي جامعة القاهرة 1995، وجد صاحب «دوائر الخوف» نفسه أمام لجنة من الأساتذة، ترفض ترقيته بتهمة «الكفر». لقد تجرّأ على نقد الخطاب الديني، وإعادة قراءة النصّ في ضوء تاريخيّته، وتناولَ فلسفة التأويل معرّجاً على المعتزلة تارةً، وعلى المتصوّفة تارة أخرى. بدأ «التكفير» إذاً داخل الأسوار الأكاديميّة، ثم انتقل إلى المحاكم. لكنْ، خلافاً لغاليليه، لم يعتذر أبو زيد ولم ينكر أبحاثه. الإيمان حريّة شخصيّة قال، واختار طريق المنفى، مصرّاً على حقّه المقدّس في التفكير والاجتهاد. لم يعش التجربة بصفتها مأساةً شخصيّة. لم يحمل مرارة أو لوماً لمجتمعه، بل رأى أنّه يدفع قسطه من ضريبة كبرى، فالقضيّة المحوريّة هي الأزمة العميقة التي تتخبّط فيها مجتمعاتنا. وفي الغرب لم يتاجر الرجل بوضعيّة «شهيد حريّة المعتقد». لقد واصل أبحاثه من داخل الثقافة العربيّة ــ الإسلاميّة. معركة التنوير باتت أكثر جذريّةً بفضل تركة نصر أبو زيد.