الجدار ساحة للمواجهة من لندن إلى... فلسطين زياد عبدالله
«إنّه فيلم جيد ما دمتم لا تتوقعون الكثير»، سيقول لنا الرسام البريطاني بانكسي (1976) مع بداية فيلمه Exit Through The Gift Shop (مخرج عبر متجر الهدايا)، وبالتأكيد سيكون على وجهه ذلك «الغبش» الذي يوضع للمجرمين، إضافة إلى تمويه صوته.
ككل رسّامي «الغرافيتي»، فإن بانكسي ملتزم بالتخفّي. هؤلاء مطاردون من الشرطة باعتبارهم مخرّبين، وجميعهم يستخدمون أسماء مستعارة مثل «غزاة الفضاء» أو «ماسح الدماغ»، وقد يرتبطون بمدن بعينها.
يحيط بانكسي نفسه بهالة غموض. حتى إنّ مدير أعماله ستيف لازارايدز ليس متأكداً تماماً من أنّه يتعامل مع بانكسي نفسه. هذا الأخير يسلّم ستيف أعماله، كما لو أنها جرعات هيرويين، ثم يترك له الشيك في موقف سيارة أو في موقع آخر يحدّده بانكسي. هذا الشك يمتد إلى اللقاء الصحافي الوحيد معه الذي نشرته الـ«غارديان»، واضطرت مراراً إلى تكذيب ما ينشره على موقعها منتحلو شخصية بانكسيلم يبق هذا الفنّان الراديكالي أسير مدينته لندن مع أنّه إحدى علاماتها الفارقة. فقد يستيقظ أهلها صباحاً ليجدوا «كشك» الهاتف ممدداً على الأرض ينزف لونه الأحمر، وقد زرعت فيه فأس. وفي الحال، سيعرف الجميع أنّ بانكسي مرّ من هنا. إنّه لا يفعل سوى التنقّل من مدينة إلى أخرى. فقد تجده يتسلل إلى «ديزني لاند» حيث يضع مجسَّماً لمعتقلي غونتنامو بالقرب من قطار الألعاب السريع، أو في «اللوفر» حيث يعلّق لوحاته على جدران المتحف العريق، وتكون إحدى النسخ المزّيفة من «الجوكوندا» مثلاً. وها هو يصل إلى جدار الفصل الإسرائيلي الذي يقول عنه إنه دعوة إلى كل رسامي الغرافيتي في العالم، وقد صارت فلسطين «أكبر سجن في الهواء الطلق في العالم». كل تلك الرسوم والغرافيتي سنشاهدها في شريطه الوثائقي. سنقع على ما رسمه على جدار الفصل العنصري الإسرائيلي وهو يحاول أن يفتح نافذة فيه أو يجعله يتداعى، بينما يرسم طفلة تطير بالبالون الأحمر لتتخطّاه، والكثير من رسومه وأعماله الشهيرة. ويبقى السؤال الأهم: كيف قدَّم بانكسي كل ذلك؟ سنكون في الفيلم أمام لعبة سردية لطيفة نعرف منذ البداية أنّنا مقبلون عليها، وخصوصاً أن الفيلم من إنتاج «بارانويد» بدل «باراموانت» مع تشابه الشعار. كذلك فإنّ المساحة ستُترك بالكامل لتييري غيتا، الشخصية العجيبة التي ستخرج من متجر الهدايا إلى الشوارع ورسّامي الغرافيتي. غيتا يمتلك متجر هدايا، وهو مهووس بالتصوير، لا يفارق الكاميرا إلا حين ينام. لا بل إنه يأخذها معه إلى الحمام، غيتا سرعان ما يصبح مهووساً برسّامي الغرافيتي، ويلاحقهم من بلد إلى آخر وهو يصوّر كل ما «يرتكبونه» من رسوم. ثم يبدأ بملاحقة بانكسي من مكان إلى آخر. وعليه، فإننا سنكون أمام مئات الرسوم والأعمال في فلسطين وإنكلترا وأميركا وفرنسا، لكن من دون أن يقع غيتا على بانكسي.
وحين تتحقق أمنية غيتا ويلتقي ببانكسي، يقرّر أن يصنع فيلماً عنه. والنتيجة فيلم بعنوان «حياة جهاز تحكم» يكون بمنتهى الرداءة، فتنقلب الآية. يقرر تييري غيتا أن يصبح رسام غرافيتي، بينما يصوّر بانكسي فيلماً عنه. وبعد أن يحقق تييري نجاحات كبيرة في فن الغرافيتي، يقول بانكسي مازحاً إنه تعلم درساً كبيراً، وهو «ألا يشجِّع أحداً على الرسم». الفيلم وثيقة كبرى لرسّامي الغرافيتي في العالم. والفنّ مع بانكسي أشبه بالمنشور السياسي، والعمل الثوري السرّي. إنّه فنان يؤمن بعراء الشارع وجدرانه، بالتمرّد على الصالة والغاليري والمتحف والأمكنة المغلقة والمكرّسة، بمجابهة الإعلان بأدواته،

في «ديزني لاند»، وضع مجسّماً لمعتقلي غونتنامو بالقرب من قطار الألعاب السريع
وتسجيل مقولته ضد كل التزييف الذي يطال كل شيء في هذا العالم المترامي. وهو يقول الكثير، أو كما يصفه ملهمه وعرّاب فنّ الغرافيتي الفرنسي بلاك لو را: «بانكسي رجل غاضب جداً وأحبّ ذلك. يقولون إنّه ينسخ عني، لكنّني لا أعتقد ذلك. أنا رجل عجوز، بينما هو شاب في مقتبل العمر. إذا صحّ أننّي ملهمه كما يقال، فسأحبّ أن أكون ملهماً لفنان بهذه الجودة. أحسّ بأن ما يفعله في لندن مشابه لما أحدثته حركة الروك في الستينيات». في جانب كبير من أعماله، يستخدم بانكسي آليةً إعلانية يوظّفها في تقديم قراءة هجائية لأنماط العيش الرأسمالي، ومواكبة اجتماعية وسياسية واقتصادية للراهن، وبحث عن جوهر الحياة الحديثة المستلبة من قبل السوق. هكذا، يجابه التناقضات السياسية والاجتماعية داخل المجتمع الرأسمالي وخارجه. وإذا به يحوّر تحيّة العلم لتصبح تحيةً لعلم سوبر ماركت «تيسكو»، بينما يرسم الإنسان البدائي وهو يلاحق عربات التسوق بالرماح، أو يكتب إلى جانب كاميرا مراقبة «أمة واحدة تحت كاميرا CCTV»... هو الذي يقول «لن يكون في مقدورنا القيام بشيء لتغيير العالم ما لم تتفتّت الرأسمالية. وفي الوقت نفسه، فإن علينا جميعاً القيام بالتسوق لتعزية أنفسنا». الفيلم على إيقاع الغرافيتي تماماً، مع فارق واحد أن السلاح سينمائي هذه المرة، إذ إنّ بانكسي يرى أنّ الشركات تشوِّه الأبنية والجدران والحافلات بإعلاناتها: «يخالون أنّه يحق لهم نشر رسائلهم وبضاعتهم من على كل سطح متوافر من دون أن يُسمح لنا بالردّ عليهم. حسناً لقد بدأوا المعركة والجدار سلاحنا وخيارنا للرد عليهم».