أحبّ بيلار والحياة والشعوب المقهورةبعد رحيله في 18 حزيران (يونيو) الماضي عن 87 عاماً، أوصى بإحراق جسده ونثره في جزر الكناري. صاحب «العمى» عاش ومات شيوعياً ملحداً ومتشائماً معلناً... قبل «نوبل الآداب» وبعدها

خالد البسام
كان القدر رحيماً بالروائي البرتغالي الشهير جوزيه ساراماغو (1922 ــــ 2010). فقد أنهى روايته الأخيرة وهو طريح الفراش قبل رحيله في 18 حزيران (يونيو) الماضي («الأخبار»، 19/6/2010). فقد أصرّ الرجل وبروح قتالية على إكمال كل ما يريد كتابته قبل أن يرتاح للموت. صاحب «العمى» كان يردد دوماً ما كانت تقوله جدّته: «الموت لا يحزنني لكنه يسبّب لي الحسرة لأنّ الحياة جميلة».
أحب ساراماغو الحياة والكتابة حتّى الرمق الأخير. رغم حالته الصحية الصعبة في السنوات الأخيرة، ظلّ يعمل بكثير من التركيز والدقة... كما فعل طيلة مشواره الأدبي الحافل. حتّى أثناء قيامه بعملية إصلاحات وصيانة في بيته، بقي مواظباً على الكتابة. لم يكن يفصله عن العمّال إلا حائط من البلاستيك. كان يسمع كل أحاديثهم وحكاياتهم وقصصهم... وبالطبع ضجيجهم وأصوات التحطيم والتكسير وحتّى صوت الطلاء الذين كانوا ينشرونه على الجدران. لكنه لم يلمهم أبداً، ولم يفقد أعصابه حتّى. كان يقول دوماً: «هم لهم عملهم، وأنا لي عملي». هكذا، جاورهم بكل سلام خلال الأشهر التي عملوا فيها.
رغم أنّ باكورته الروائية صدرت عام 1947 وحملت عنوان «أرض الخطيئة»، لم يلقَ الأديب البرتغالي شهرةً واسعة إلا في الستين. بدأ حياته فقيراً جداً وسط عائلة من الفلاحين الذين يعملون بالأجرة. هجر المدرسة باكراً وانصرف إلى مهن صغيرة كادحة مثل صنع الأقفال والحدادة والزراعة. وبعد سنوات طويلة في ممارسة تلك الأعمال، دخل عالم الكتابة مصححاً لغوياً في إحدى دور النشر، ثم انتقل إلى الصحافة والترجمة. في خضمّ انشغاله بتلك المهن كان يطمح «لأن يكون مدرّساً جيداً»، كما روى يوماً. «لكن بخلاف ذلك، اكتفيت بألا أكون كاتباً سيئاً!».
عندما فاز بنوبل الآداب عام 1998، كان أوّل من ينال الجائزة العالميّة بين كتاب اللغة البرتغاليّة. ابتهج هؤلاء يومها بالحدث بعدما تناستهم الجائزة العالمية طويلاً. أمّا صاحب «قصّة حصار لشبونة» فأسرّ لناشره: «لا أعتقد أنني ولدت لكلّ هذا المجد». وفي الخطاب الذي ألقاه أمام الأكاديميّة السويديّة، أشار إلى أنّ جدّه جيرونيمو كان «الرجل الأكثر حكمة الذي عرفته، كان لا يجيد القراءة والكتابة».
زار مدينة رام الله وندّد مراراً بجرائم إسرائيل
لم يكن ساراماغو في حياته الطويلة كاتباً فقط، بل مناضلاً في كلّ مكان. زار مدينة رام الله عام 2002... يومها شبّه الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش الذي رتب الزيارة مع كتاب عالميين آخرين، ببابلو نيرودا. تنديده المتكرر بجرائم الدولة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين في الصحف العالمية، جعل كثيرين يصفونه بالأديب المعادي للسامية. كان الرجل متواضعاً وكثير الإنسانية في مواقفه تجاه الشعوب المضطهدة، وبقي طيلة حياته شيوعياً ملحداً متشائماً معلناً. لكن مواقفه تلك، جعلته منبوذاً في بلده ذي الطابع الكاثوليكيّ.
كتابه «الإنجيل بحسب يسوع المسيح» (1991)، وما تلاه من سجال مع الكنيسة كان سبباً للقطيعة النهائية بينه وبين حكومة البرتغال المحافظة. هكذا اختار منفى ذاتياً في جزر الكناري، حيث ابتعد عن العالم مع زوجته الصحافية الإسبانيّة بيلار ديل ريو.
لم تكن الشهرة يوماً مراده على الإطلاق. فقد قال عنها مرة: «الشهرة ليست إيجابية بحد ذاتها. أحياناً يكون الواحد منا مشهوراً لأسباب سلبيّة». وعندما سألته إحدى الجرائد: «هل الشهرة مخدّر؟» أجاب: «لا. لا أعتقد هذا. كل هذا سينتهي بعد قرون أو بعد أعوام... حينها لن تكون لك تقريباً أي أهمية». كانت وصيّة ساراماغو أن يحرق جسده وينثر رماده في جزيرة لازاروت التي أمضى فيها العقدين الأخيرين من حياته. لكنّ كثيرين اليوم سيستمرون بالنهل من روائعه من «سنة وفاة ريكاردو ريس»، و«كل الأسماء»، إلى عمليه الأخيرين «رحلة الفيل» و«قابيل». روائع لن تنزل عن رفوف المكتبات كما لو أنّ صاحبها لا يزال حياً، ينبض بمواقفه الثائرة، وسخريته اللاذعة.