في «مقتنيات وسط البلد» (الشروق)، يحكي الروائي المصري خلاصة عمر أمضاه في القاهرة الخديوية. من «كتاب البشر» حيث نتعرف إلى أديب الشباب وعلا ريختر وشخصيات حالمة أخرى، إلى «كتاب المكان» الذي يستعيد مقاهي أيّام زمان وفنادقها العابقة بالتاريخ
محمد خير
«بدأت أتجنّب رؤيتها حتى لا أتذكرها وتزيد الرغبة. ثمّ حدثت معجزتي الشخصية (...). كان الشتاء قد هبط فجأة ونحن بـ«روف» «الأوديون». لم أكن مرتدياً غير قميص خفيف، فقررت المغادرة على الفور قبل أن تحل الساعة العاشرة مساءً. أوصلني المصعد إلى بهو الفندق حيث فوجئت بها جالسة تبكي بتشنج، وموظف الاستقبال يواسيها ويطيّب خاطرها، لم أترك الفرصة تضيع من يدي وتقدمت نحوها...».
ليست قصة جديدة للروائي المصري مكاوي سعيد، لكنّها واحدة من 41 حكاية حقيقية ضمّها كتابه الجديد «مقتنيات وسط البلد/ وجوه وحكايات من وسط القاهرة» (الشروق). في الكتاب المزخرف بلوحات الفنان عمرو الكفراوي، يحكي صاحب «تغريدة البجعة» خلاصة عمر قضاه في القاهرة الخديوية (وسط المدينة) حيث ملاعب الحب والألم والجنون. في الليلة التي قابل فيها الجميلة تبكي في مدخل الفندق، تحقّقت «معجزته الصغيرة» واصطحبته إلى بيتها الهادئ البعيد. لكنّ الليلة ستكشف عن رعب من نوع خاص، وجنون انتهى به إلى لملمة ملابسه والهروب جرياً من باب البيت.
في «مقتنيات وسط البلد»، يبدو انحياز المؤلف واضحاً إلى من اختاروا الفرجة على العالم، من دون أخذه على محمل الجد. أولئك الواثقون بأنّ الفرصة ستأتي لو كان مقدّراً لها أن تأتي. مع ذلك، فإنّ أغلب شخصيات الكتاب طاردت أحلامها بمنتهى الإصرار، مهما بدت الوسيلة غريبة.
من هؤلاء «أديب الشباب» الذي عرفته مصر كلها بين نهاية السبعينيات ومنتصف الثمانينيات. ملأ الرجل البلاد صخباً بوسائل ذاتية خالصة. قام مرة بدور المسحراتي، واستأجر دراجة وميكروفوناً ليوقظ أهل المعادي طيلة شهر رمضان. لكنّ وسيلته الأهم كانت علبة سبراي الطلاء. بجهد مذهل، كتب دعايات كتبه على «منحدرات المترو وحوائط الخرابات، وعلى الجدران على طول شوارع وحواري وأزقة القاهرة وعرضها. لوّن المساحات البيضاء بسبراي أحمر داكن: أديب الشباب فلان الفلاني، يحظر على بنات مصر الجديدة والمعادي قراءة مؤلفاتي».
قصص المقاهي والبارات والفنادق التي تحولت إلى شركات ومتاجر أحذية
نجحت خطته واشتهر أسرع من أي مؤلف آخر، وعرف الناس أسماء كتبه الغزيرة «سيدي المسيح عفواً»، «الألوهية والجنس»... كان يسكن مقابر الإمام الشافعي، واستضافه التلفزيون بعد جهد، فاحتشد الناس لرؤيته أمام مبنى «ماسبيرو». حاول مكاوي وأصدقاؤه لقاء «أديب الشباب». اتصلوا برقم هاتفه ودعوه إلى مقهى «علي بابا» الشهير في وسط البلد. حضر قبل الموعد وجلس إلى جوارهم فلم ينتبهوا إليه. تنصّت على سخريتهم منه فانسحب. وعندما هاتفوه في اليوم التالي، لعنهم جميعاً. الآن، اختفى «أديب الشباب»، وإن بقيت بعض آرائه الفلسفية، ومنها أن الشرق متقدم على الغرب... «لكنّ أحداً لا يريد الاعتراف بذلك»!
لم تكن علا ريختر بشهرة «أديب الشباب»، لكنها لم تكن أقل إصراراً منه على بلوغ مأربها. سمّيت «ريختر» بسبب «ضخامتها وتغندر مشيتها التي تكاد تهزّ الأرض طرباً». لما كانت تمشي في الطريق، كان المارة يبتعدون، والأطفال يخافون، والمشاغبون يعاكسون: «جمل، وحش، يا أرض اتهدي». رغم عاطفتها و«جدعتنها»، إلا أن الانطباع الذي عكسه جسدها الهائل كان ذا علاقة بعيبها الأساسي: كانت قاهرة أو ربما «آكلة» للرجال. لم تكن لها اهتمامات فنية أو أدبية، على عكس معظم نساء وسط المدينة، لكن ذلك لم يقف حاجزاً أما تعدد زيجاتها. ثم وجدت نفسها فجأة تلامس منتصف الثلاثينيات، مطلّقة بلا ولد، فبدأ الفصل الثاني من حياتها، فصل لا يقل عما سبقه غرابة، أو شراسة! حكايات وحكايات، عن أسامة الغاضب النبيل الذي عاد من دون أن يستكمل دراسته في الخارج، وأشاع زملاؤه أنه حصل على شهادة «غير قابل للتعلم في القارات الخمس». عن نرجس السكندرية التي مات حبيبها فتزيّنت وصعدت إلى سطح المبنى، لا لتنتحر، بل لتبصق على العالم. عن «سيدة ممرّ البستان» الأجنبية التي صاحبت شقتها الواسعة ثمانين عاماً حتى صارت ـــــ الشقة ـــــ مطمعاً للمغامرين. وعن «البرنس» ملك الليل الذي لم يره أحد في النهار أبداً، وكانت شقيقته نجمة في العصر الذهبي للسينما المصرية. بسببها أحبّ الليل والفن، وحاول أن يشق لنفسه طريقاً في كل ذلك، لكنّ أحلامه بقيت أحلاماً.
أمّا الأماكن فلها قصة أخرى. ينتهي «كتاب البشر»، ويبدأ القسم الثاني تحت عنوان «كتاب المكان». يدوّن المؤلف حكايات المقاهي والبارات والفنادق التي تحوّلت إلى شركات ومتاجر أحذية، جنباً إلى جنب تلك التي بقيت حية بضجيجها وروادها إلى اليوم. يوثّق قصص الشوارع والميادين والأسواق، ما تبدّل منها وما بقي على صورته.
ترى من يعرف أن «مقهى الحرية» أنشئ على أنقاض بيت الزعيم أحمد عرابي؟ في بنسيون «ميرامار» مثلاً ـــــ وهو بالطبع غير بنسيون نجيب محفوظ الشهير ـــــ اقتسم الراحل أحمد زكي غرفة واحدة مع ممثل موهوب. اشتهر زكي وحقق النجاح الكبير، فاكتأب الآخر وهام على وجهه تاركاً التمثيل ووسط البلد. إن كانت حكايات البشر تعتمد على الخبرات الشخصية لمكاوي سعيد، فحكايات الأماكن موثقة في فصل يضم عدداً من أهم مراجع القاهرة، حكاياتها، وتاريخها وخباياها.