سيلفيا كلارك... رقصة أخيرة مع الحياة
حازم سليمان
تحتفظ التشكيلية البريطانية سيلفيا وودكوك كلارك برسائل من جورج براك، ومارك شاغال... تحتفظ أيضاً بذكريات مشاغبة مع بابلو بيكاسو وخوان ميرو وبرنار بوفيه. لكنّها لأسباب عميقة وجدت أن هؤلاء سيقتلون إحساسها الخاص بالزمن والفن، وأنّها ستتحول إلى مجرّد فنانة شابّة مرّت على مراسم الكبار. كلارك التي تكرّمها الحكومة البريطانية في معرض احتفائي ضخم مطلع العام المقبل، انقلبت في السنوات الأخيرة على مشروع فنّي حافظت عليه طيلة أربعة عقود. الصمت، واقتفاء أثر الحياة في الأشياء الساكنة، تحوّلا إلى صخب. تحليل الحياة إلى عناصر لونية واختزالات، صار حراكاً مُربكاً تصنعه فنانة تجلس على حافة التسعين.
«لم يعد العالم مُلهماً كما كان. الفوضى، والقسوة، والعجز، وفقدان الأمل، هي ما نعيشه يومياً. وحين يُكتب عليك أن تعيش طويلاً بعد موت الأصدقاء والأحباب، تصير الحياة ضيّقة ولا تتسع لامرأة ملولة مثلي». بهذه الكلمات تقدم سيلفيا كلارك أعمال معرضها الذي وصل أخيراً إلى «غاليري المجلس» في دبي، ضمن جولة عالمية ينظمها متحف «أدنبره للفنون المعاصرة». كلمات يمكنها أن تفسّر زحمة البشر والقطط والأسماك في لوحاتها. أعمال زيتيّة تدعو فيها الحياة إلى رقصة أخيرة، في مرسمها القبرصي، حيث تعيش وتستعد لافتتاح متحف صغير يضم أعمالها الجديدة غير المخصصة للبيع. في المعرض عشرون عملاً أعطتها الفنانة عنوان «فالس الوداع» كتابها المفضّل من تأليف ميلان كونديرا. نجدها تُعيد قراءة الحياة من منظور جمعي شعبي، وتستجيب لهواجس وحشية، ونزوات مميتة. لا مكان للحكمة في أعمال كلارك. التقاط الحراك البشري في رسم طفولي وحشي صار ملمحاً جوهرياً في أعمالها الأخيرة. تجارب تخلّت عن الخبرة من أجل تعبيرية قوامها رصد الحياة اليومية. تتأمل في العلاقات البشرية ضمن فضائها الاجتماعي والاقتصادي في الموانئ والأسواق، عبر رحلاتها التي جابت العالم بحثاً عن دهشة «لا يمكن العثور عليها على سرير البيت».
الفنانة التي صنّفتها موسوعة الفن الحديث من بين أبرز التجريديين في النصف الثاني من القرن العشرين، ترسم بأعصابها. التعاطف بات جزءاً أصيلاً في تجارب حكائية تروي سير أناس من أنحاء العالم. رغم ارتباط هذه الأعمال بوقائع وتسجيلات، إلّا أنّ كلارك لا تسعى إلى اختزال الزمن، بل إلى تأكيد حيويته. تدفع الذاكرة إلى الأمام. تحتفي بالفوضى، وبلغة الجسد، وبالكائنات المنزلية.
البساطة المفرطة رهان كلارك الجديد، بعد تخليها عن قواعد اكتسبتها وصنعتها على امتداد مشوار فني طويل. بناء لحظات درامية لم يكن ضمن حساباتها سابقاً. أخذت لوحتها طابعاً

تخلّت عن الخبرة من أجل تعبيرية ترصد الحياة اليومية
تضخيمياً لعناصر الموضوع. تؤسِّس الشكل في طبقات لونية قوية، وتقسو على سطوح لوحاتها بخطوط غائرة ونافرة تبدو محفورة في بنية العمل. تعرف هذه الفنانة غايتها. لا تُخفي رغبتها في اختبار حساسيات مدارس فنية عايشت صعودها وهبوطها في القرن الماضي. بصمتها واضحة في خلفيات عميقة وبنية صلبة، في فضاء قادر على احتواء مشهديات تصل إلى أقصى إملاءات المزاج. عوالم موثقة وأخرى مشتهاة. وفي لحظة يصير كل شيء أوهام امرأة تبني عالماً يكاد يفلت من يديها.
ترسم الفنانة لوحة قوية يصعب تفكيكها. شخصياتها بارزة، تفاصيل عدة تجمعها بإحساس موسيقي وإيقاع ممتع يزيد من حيوية منشودة. علاقة الجسد بالزمن، والمكان بوصفه حالة وهمية لتكوّن وعي مُرتهن، والطفولة باعتبارها حرية مطلقة... جميعها مواضيع تقدمها كلارك في لوحاتها الزيتيّة مثل «طفل القرد»، و«طفل وموزة برائحة السمك»، و«السوق»، و«قطط البهجة». تدخن سيلفيا أكثر من ستين سيجارة في اليوم... وتنام كالقطط بصورة متقطعة. ترسم لتبقى على قيد الحياة، مستندةً إلى عكاز لا مفرّ منه بعد هذا العمر. لم تفكر في الزواج يوماً، لأنّه «لا فرق بين رجل وآخر مهما اختلفت أشكالهم وثقافتهم». لكنّها لا تمانع أن تتزوج الآن: «على الأقل سأجد من يذكّرني بموعد حبة الضغط التي أنساها دائماً».