نينار إسبر «تبارز» (والدها) أدونيسسناء الخوري
أن تكون مزعجة: هذه لعبة نينار إسبر الأثيرة... تخالف «المتفق عليه»، كموقف من الحريّة المشروطة، ومن المجتمع البطريركي، ومن الوجود بأسره. عينان واسعتان، وشعر فحمي مبعثر وطويل، وشيء ما يذكّر بالرفيقات المشاغبات على مقاعد الدراسة. هل كانت نينار إسبر تلميذةً مشاغبة؟ ليس من الضروري أن نتكهّن حول أطباع التشكيليّة الشابّة، تكفي قراءة كتابها «أحاديث مع والدي أدونيس» (الساقي). هنا لا مجال للغموض أو المواربة. في حوار مشوّق، تجرّ ابنة أدونيس الصغرى والدها إلى ميدانها، تحاصره بأسئلتها المحرجة، تربكه، وتنتزع منه اعترافات خطيرة في والشعر، والحب، والجنس، والسياسة، والدين. وبدورها تخبره عن قططها، عن علاقتها بالإبداع والفن، عن يوميات الحرب الأهليّة، عن الرجال والجسد، عن باريس وبيروت.
الكتاب حواريّة بصوتين إذاً. مناسبة لنسمع أدونيس يحكي كما لم نسمعه من قبل: جلسة عفويّة حول كأسي نبيذ مع ابنته. إنّها فرصة لنكتشف نينار أيضاً، هذه الفنانة البعيدة عن صالات العرض العربيّة، والحاضرة دوماً بأعمال إشكاليّة ـــ «فضائحيّة» كان ليكتب أصحاب الحسّ المحافظ ـــ في معارض عاصمة الأنوار، حيث تقيم منذ 24 عاماً. نتشارك معها تأملات مهيار الدمشقي حول الوجود، ومؤسسة الزواج، وحرية المرأة، والعذريّة... كلّ ذلك بخفر شاعر تذكّر فجأةً أمام أسئلة نينار الجريئة أنّه أب... ما جعلها تلومه في الكتاب على إجاباته الـ «تقليديّة».
«أجريت هذا الحوار وفي ذهني هدف أساسي، أن أجلس وجهاً لوجه مع أبي، أن أحاصره فلا يستطيع الهرب منّي»... تسرّ إلينا الابنة الصغرى للناقدة خالدة سعيد ولصاحب «الثابت والمتحوّل». «كان الحوار شكلاً من أشكال المبارزة»، تقول. في الكتاب الذي صدر بالفرنسيّة عام 2006 عن «دار سوي» (باريس)، ووصلنا أخيراً في نسخته المعرّبة عن «دار الساقي» البيروتيّة، تختلف نينار مع أبيها بين الحين والآخر. يتداولان وجهات النظر في قضايا راهنة وملحّة، مثل علاقة الفرد بالدين، وهامش الفرديّة في المجتمعات التقليديّة. وإذا بنا أمام مضمون جريء نادر في المكتبة العربيّة، يكتنفه عدد من التناقضات التي تميّز تجربة نينار إسبر وجيلها. يباغت أدونيس ابنته التي تجاهر بقطيعتها المطلقة مع المجموعة: «أسئلتك نظريّة جداً، بين مجتمع حديث ومجتمع لا علاقة له بالحداثة. لديّ انطباع بأنك أنت التي تعانين صعوبات مع هذين المجتمعين». لكن نينار تصرّ على أنّ خيارها واضح وهو «حزب فرديتي خارج السياق الشرقي الأبوي المتعب».

أبو الحداثة العربيّة يواجه ابنته في ظلّ «الثالوث المحرّم»
إشكاليّة الحريّة هذه، وما تنتجه من تجاذبات في الذات العربيّة بين حداثة وتقليد، هي المصدر الذي تنبثق منه محاور الكتاب. تطالعنا على امتداد الحواريّة بين «أب شرقي» وابنته، التحديات اليوميّة التي تواجه الفرد العربي عموماً، وجيل نينار إسبر، بوصفه جيل القطيعة مع قيم الأب. هكذا يقيم القارئ علاقة شخصيّة مع الكتاب، وتصير صفحاته مساحة للمراجعات الذاتيّة.
يخالجنا احساس بأن تلك الـ«حوارات مع والدي أدونيس» لم تكتب لتقرأ، بل صيغت أساساً كـ«برفورمانس» تضيفها نينار إلى سلسلة عروضها الأدائيّة وأفلامها (فيديو آرت) «المزعجة» الصداميّة في علاقتها بالسائد. أداء يندرج ضمن اختيارها للفن المعاصر كميدان للتعبير والتحريض، منذ اصطحبتها أختها الكبرى أرواد إلى أحد عروض بينا باوش. بعدها بسنوات، تقرّر نينار في أحد أعمالها، أن تتحدّى التقاليد الشرقيّة الذكوريّة، فإذا بها تقف على سطح بناء في حي كوم غراب الشعبي، أحد أكثر الأحياء المحافظة في القاهرة، وتغنّي بمكبرات الصوت نسختها المعرّبة من أغنية مارلين مونروI wanna be Loved by you، كـ«موقف نسوي، إيروتيكي، في وجه جميع الأصوليين في المحيط». لا نعرف إن كانت نينار يوماً تلميذة مشاغبة... لكنّها لم تتوقّف يوماً عن مدّ لسانها للعالم. لعبتها المفضّلة هي القفز فوق الخطوط الحمر. وحوارها مع والدها أدونيس ليس إلا فصلاً آخر من فصول تلك اللعبة.