سناء الخوريحين التقيناه أحد صباحات خريف 2008، لم يكن ماتياس إينار قد صحا من نومه بالكامل. كان الفندق البيروتي الذي ينزل فيه صاحب «زون» يعجّ بضيوف «معرض الكتاب الفرنكوفوني»، واقتضت ترتيبات المنظّمين أنّ نلتقيه عند التاسعة صباحاً. بين المزاج المشتّت لمن استيقظ لتوّه، وإرباك اللقاء الصحافي، وجد إينار الوقت ليتذكر معنا طريقه إلى المنطقة العربيّة. تلميذ «معهد اللغات والحضارات الشرقية» في باريس، عشق صف الفن العربي والإسلامي، فتوجّه إلى دراسة العربيّة والفارسيّة، وأتقنهما. دخل عالم الترجمة، ونقل إلى الفرنسيّة «كتاب القضيب» للإيراني ميرزا حبيب أصفهاني، وكتاب يوسف بزّي «نظر إليّ ياسر عرفات وابتسم».
احتكاكه الفعلي الأول بالأدب العربي كان من خلال رائعة الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»... لاحقاً خاض هجرة معاكسة لهجرة مصطفى سعيد، فأتى إلى الشرق يمضي سنوات طويلة بين بيروت ودمشق ومصر، حتى إنّه استقر بضع سنوات في الحسكة حيث درّس اللغة الفرنسيّة. رحلة القطار بين ميلانو وروما في «زون»، وإن كانت محض خيال، تحمل أطيافاً من ترحاله، وخبراته، ومشاهداته. «انفتاحي الأول على مدينة عربيّة كان في القاهرة. لفتتني علاقة الناس مع الفضاء العام، حيث يعيد أهل الشارع خلق القوانين بحسب مزاجهم، كأنّهم يأخذون محلّ الدولة الغائبة. رأيت هناك كيف تصير الفكاهة وسيلةً لمحاربة الأسى بكلّ أشكاله السياسية والاجتماعية». إلى جانب الأمكنة المستعادة، يأخذ التاريخ مساحة كبيرة في «زون». «إنّه التاريخ كما يرويه الأفراد»، يشدِّد إينار. «يهمّني سرد المصير الجماعي، من وجهات نظر فرديّة، وعبر نصوص ذاتيّة. فكلُّنا معنيون بمسار التاريخ، سواءً كنا ضحايا أو جلادين».
تطغى تيمة الترحال في هذا السرد، كمحرّك أساسي للرواية (ولسيرة إينار نفسه؟). لهذا لا نستغرب حين يخبرنا أنّه يعشق من بين الأدباء الروائي والشاعر السويسري الفرنسي بليز ساندرار (1887 ـــــ 1961)، بما تحمله نصوصه من عناصر الرحلة والمغامرة. التجربة الروائية بمجملها هي «مشروع استكشافي» بالنسبة إلى إينار. في «زون»، اختار أن يستكشف مواضع جارحة في تاريخ البشريّة. «عنف الحرب هو موضوعي الرئيسي. ومن خلال هذا المحور، أردت أن أسال إن كان العنف قدراً محتَّماً، أم أنَّ الجرائم الكبرى في تاريخ البشريّة كان يمكن تفاديها؟ هل كان أمام مجرمي الحرب خيارات أخرى؟ وما كان أثر الإيديولوجيات الخادعة في ذلك؟» أسئلة تنبع من إيمان إينار بأنّ الحدود بين الغرب والشرق «وهميّة، أرساها المدّ الكولونيالي».
خلال ذلك اللقاء، عبّر إينار عن رغبته في رؤية «زون» في المكتبة العربيّة... ها هو طموحه يرى النور اليوم، فيما صدر عمله الروائي الجديد Parle-leur de batailles, de rois et d’éléphants (حدّثهم عن معارك وملوك وفيلة) عن دار «أكت سود» أخيراً.