منمنمات فارسيّة في قوالب رقميّةحازم سليمان
رغم اتخاذ أعمالها موقفاً سياسياً عدائياً من النظام الإيراني، إلا أنّ بارَستو فوروهار (1962) استطاعت أن تنقذ مسيرتها الفنية من السقوط في فخ الامتثال لمفاهيم سياسية ضيّقة. منذ مطلع الألفية الثالثة، أعادت التشكيليّة والمصورة الفوتوغرافية الإيرانيّة قراءة منجزها وفق آليات جديدة. خرجت من نمطية الكيتش، والوصفات البصرية الرائجة عند العشرات من الفنانين الإيرانيين الشباب. تسلَّح نقدها السياسي بقراءة واعية لحركة التاريخ والمجتمع. اقترنت أعمالها برصد التحولات العميقة في بنية المجتمع الإيراني من وجهة نظر تراثية وحضارية واقتصادية، ووثّقت العنف السياسي والاجتماعي على أنّهما ظاهرة بشرية وليسا صناعة إيرانية حصراً. تخرّجت فوروهار من كلية الفنون في طهران (1990) وتعيش الآن في ألمانيا. «صالة روز عيسى» تنظّم استعادة لمجموعة من أعمالها، يحتضنها «متحف لايتون هاوس» في لندن ابتداءً من الأول من تشرين الأول (أكتوبر) المقبلمعرض فوروهار الفردي الأول في بريطانيا يأتي في إطار الاهتمام النقدي الواسع الذي تحظى به أعمالها بين تجهيز وتصوير ووسائط متعددة. فقد اقترن اسم هذه الفنانة المتعددة بالحداثة البصرية الإيرانية، وصارت ضيفاً على أهم متاحف العالم. منذ 2000 أنجزت تجارب عُدّت مثالاً حياً لتناقضات المجتمعات الشرقية. جمعت فن البوب بالشعائر الدينيّة، وحلّلت المظاهر المتنوعة للنسوية، بملامح الفنون والحرف اليدوية في إيران.
على المستوى الشخصي، ظلّ مقتل والديها في عام 1998 حاضراً وملحّاً. لكنها عمّمت ألمها الفردي لتنجز من خلاله تجارب تتعقّب أثر العنف السياسي. عملها الضخم «توثيق» (2003) كان إدانة صارخة للتصفيات الجسدية للخصوم السياسيين في الأنظمة الشمولية. اعتمدت فوروهار على إعادة تدوير المعلومات المتوافرة لديها عن مقتل والديها، وحوادث أخرى مشابهة. في هذا المشروع، يمكن المتلقّي إضافة معلومات جديدة مماثلة وتوثيقها لتصير جزءاً أصيلاً من العمل.
العنف علامة فارقة في أعمال فوروهار. تجاربها الاستعادية التي يحتضنها «متحف لايتون هاوس» هي قراءة في تجليات العنف البشري وأشكاله وفق مستويين أساسيين: الجسد والعقل. عملها «راكبة البجعة» (2004 ـــــ تصوير ـــــ 76×152) هو جزء من مشروع فوتوغرافي متنوّع. تقدِّم فوروهار مفاهيم عدة للنسوية المحجوبة. لا تحلّل الحجاب من زاوية دينية واجتماعية باتت مألوفة، بل من خلال بحث بصري في علاقة الحجاب مع محيطه. الحجاب هنا يتحول إلى مادة بصرية ناشذة وغير منسجمة مع الفضاءات والوضعيات التي نراه فيها. تضعه فوروهار في سلسلة اختبارات أدائية متنوعة. تربطه بالحياة اليومية، بأفعال حركية، وتخلق منه مساحة لقراءة قوامها التضاد بين الأسود والأبيض في أفق رمادي بارد ومحايد جداً. الحجاب عند فوروهار ليس غطاءً للجسد بل شكل من أشكال العنف المضمر. «ألف ليلة وليلة» (2005 ـــــ سلسلة من ثمانية رسوم يدوية وطباعة رقمية ـــــ 30×42 سنتم) من أبرز أعمال فوروهار، توثِّق فيه أشكال التعذيب الجسدي. جداريات فسيفسائية ضخمة من الرسوم اليدوية الحرّة. تستفيد فوروهار من جماليات النقش، والمنمنمة الفارسية، والرسوم المعبدية لإيجاد مناخ بصري جاذب سرعان ما ينهار لتتكشف وضعيات

الحجاب في أعمالها ليس غطاءً للجسد، بل شكل من أشكال العنف المضمر


قاسية وغير محتملة من العذاب والألم البشريين. القالب التزييني في هذا العمل يشبه فخاً جمالياً نسقط فيه لنجد أنفسنا وسط وحشية تفنّن الإنسان في ابتكارها على مرّ العصور. الألم الجسدي في هذا العمل يأخذ سمة انتقامية من معان سامية مثل الحب والجنس والحياة. ثمّة فصل حقيقي للعاطفة. مساحة باردة تحيلنا على صمت عميق، رغم كل ذلك العويل الذي يتركه هذا العمل في الرأس.
لا تبتعد فوروهار كثيراً عن توثيق التعذيب في عملها «اسمي أخضر» (2008 ـــــ رسم يدوي وطباعة رقمية ـــــ 80× 80). في هذا العمل، ثمة رصد معاصر للعنف المؤسساتي، حين تصير الدولة مرادفاً للرعب والكبت. هنا ينحشر البشر في مساحات ضيقة خانقة، ويصير الخوف جزءاً أصيلاً من اللوحة. بشر فوروهار ليسوا أكثر من تكوينات من دون ملامح. كائنات عالقة في مصائر بشعة بخيوط لامرئيّة. ثمة انتزاع قسري للهوية الفردية، وتمريغ للذاكرة، وتنكيل بأحلام بسيطة، كما هي الحال في عملها «اسمي أحمر» (2008 ـــــ رسم يدوي وطباعة رقمية ـــــ 80×80). تواجه فوروهار المجتمعات الدينية والطائفية باعتبارها مرادفات لحالات الاستلاب الجماعية. في تجهيزات مثل «الجنازة» (2008 ـــــ كراسٍ وقماش) تصنع عدداً من الكراسي والجلسات المريحة مغلفة بأقمشة نسجت عليها أدعية وعبارات دينية. إشارات وإحالات عدة تضعها فوروهار في أعمال تحلّل النتائج المدمرة للتضليل والخلط بين الإيمان الإيديولوجي والديني. حالات فصام قوامها الولاء الجمعي المقترن بالخوف حين تصير الدولة مقدسة، والسياسيين أولياء الله على الأرض.


بدءاً من 1 تشرين الأول (أكتوبر) حتى 6 تشرين الثاني (نوفمبر) ـــــ «متحف لايتون هاوس» 12 Holland Park Road، لندن ـللاستعلام: 004402076023316