strong>زياد عبد اللهلقطة طويلة في نفق. في آخره، نشاهد رجلاً وامرأة يركضان باتجاه الكاميرا. تأخذ اللقطة وقتها حتى يصلا، فيما النفق طويل. المرأة بثوب زفافها والرجل متهندم كعريس، كما لو أنهما هاربان للتو من عرسهما. يسبقها العريس ثم يختفي، وتبقى العروس تركض وحيدة. ثم يمتلئ النفق ببشر يحملون صور من فقدوا، كما لو أنه نفق أكيرا كوروساوا في «أحلام» وذاك القائد يقف أمام نفق يدخله جنوده الذين قتلوا. البحر يعيدنا إلى العروس والعريس. ثم ننتقل إلى امرأة أخرى تتكلم على الهاتف في محطة حافلات. الضجيج على أشده، وهي تتكلم بصوت عال مع زوجها الذي نعرف أنه يعمل حارساً في سجن وقد نسي مسدسه. بينما نسمع المرأة الثالثة وقد انطلق الباص وهي تقول إنّها في طريقها لملاقاة زوجها المحكوم بالسجن المؤبد ليوقّع على ورقة طلاقها.
تلك هي بداية فيلم اللبنانية ديما الحرّ «كل يوم عيد»، الذي يفتتح مساء اليوم «مهرجان أيام بيروت السينمائية 6» (7:30 مساءً ـــــ متروبوليس أمبير صوفيل). نحن أمام ثلاث نساء جسّدتهن هيام عباس ومنال خضر ورايا حيدر: الأولى ضحية عسف سياسي، والثانية ماضية في تعقّب زوجها وتصحيح هفواته وأخطائه وربما ذكورته إن كان المسدس يجسّد ذلك، بينما الثالثة ضحية اجتماعية، لن تجد خلاصها ما لم تتحرّر من عبء الزوج المسجون الذي يسجنها معه أيضاً. أولئك النسوة سرعان ما يصرن على متن حافلة واحدة تقودهن إلى سجن الرجال برفقة نساء أخريات يملأن الحافلة. الذكر الوحيد هو السائق وما بقي نساء. إنّه وطن النساء الوحيدات. حتى هذا السائق سرعان ما يصاب برصاصة في رأسه، وتنحرف الحافلة عن الطريق وتتعطّل، فتواصل النسوة طريقهن سيراً على الأقدام في مساحات مترامية. يتفرّقن تباعاً ونمسي في صحبة النساء الثلاث السابقات الذكر.
من النفق ثم البحر وصولاً إلى سهول وجبال ووديان، مساحات لا تفضي إلا إلى الضياع. لا بل إن كلمة ضياع ستكون الكلمة المفتاح للفيلم، بما يطال الوطن والنساء، والإنسان باعتباره ضائعاً أبدياً. نحن نشاهد فيلماً محتكماً على قدر كبير من التجريب والترميز. وتمتد أيضاً كلمة «ضياع» لتطال الفيلم نفسه. التقطيع خاضع للقطات، والخط السردي الذي تجتمع حوله تلك اللقطات يمسي واهياً، ومتفرعاً وفق نزوات اللقطة أو المشهد، وفي تراتبية تخضع للترميزات والإسقاطات.
في فيلم ديما الحر، كل شيء «حلمي». إنه نوع من المشي في أحلام قد تتحول في أي لحظة إلى كوابيس. والرهان سيكون كاملاً على مفردات بصرية مصوغة في وفاء تام لرمزية تقول ما تقول أمام ما تواجهه النساء في طريقهن إلى سجن الرجال، برفقة بشر يُهجَّرون هرباً من موت يطاردهم. ويمكن ذئباً أن يخرج فجأة، فيلقى رصاصة من مسدس. كذلك فإن السيارة المحمّلة بالدجاج التي تستقلّها النساء سرعان ما تتكشّف عن حقيقة السائق الذي يكون رجل استخبارات.
في النهاية، ستطال الخسارة الجميع، خسارة النساء الثلاث. لن توصل الأولى المسدس إلى زوجها، ولن تقابل الثانية زوجها الذي اعتقل يوم زفافها، ولن تنال الثالثة طلاقها. ويمكن الإصرار على المفردات البصرية ولذّتها أن يحتمل أشياء كثيرة تترك للمشاهد أو يتركها هو بنفسه ويمضي خلف جمالياتها من دون إثقالها بمعان وإسقاطات. وقد يصاب أيضاً بضياع ما، لكون الانعطافات خاضعة لدرامية أفعال تهبط من حيث لا يدري، وتؤدي وظيفتها الرمزية.
كذلك فإنّ صراع الشخصيات يستحضر بما تكون عليه مهمة، أو تطلع كل الشخصية من دون أن نكون شهوداً على بناء هذا الصراع.

باكورتها الروائية الطويلة دعوة إلى التجريب ملأى بالترميزات والإسقاطات

وعليه، يمسي تتبّع الدجاجة الملتصقة على زجاج السيارة مجرد محاولة لجعلها مثلاً نقطة موت لكائن مسالم يتوسط الكادر. وعبر مواصلة تتبّع الفيلم بوصفه «فيلم طريق» وفي قراءة مغايرة، يمكن أن يختزل السرد سيرة وطن، قُتل فيه السائق وتشتّت شمل من كانت تحملهم الحافلة، ولم يبق شيء إلا الضياع ومواصلة هذا الضياع من دون تحقيق أي نتيجة أو غاية. لا بل إن الأمر يطاول السجّان نفسه الذي يبقى من دون سلاحه، مع تكرار مشاهد البشر الذين يهجرون من بيوتهم ويتشردون من دون أي بوصلة. «كل يوم عيد» دعوة إلى التجريب، تفتح فيها مخرجته باكورة أعمالها السينمائية الروائية الطويلة. وقد سبق لها أن قدمت فيلماً وثائقياً بعنوان «صدى الصلاة»، وثلاثة أفلام روائية قصيرة هي «هوية ضائعة» و«جاهز للتحميل» و«أم علي». من جانب آخر، يمكن مقاربة «كل يوم عيد» كفعل تأنيث سينمائي لما يترك معلقاً بين الأرض والسماء، وتحضر مجدداً كلمة «ضياع» التي ينبغي لها في آن أن توجد مصالحة بين العبث والرمز. عبث المضي في طريق يفضي إلى لامكان، ورمزية تقود إلى وطن ضائع. وفي ما بينهما، يمضي الفيلم وهو يسعى جاهداً إلى تقديم مقترح جمالي ما.


«كل يوم عيد»: 7:30 مساء اليوم ـــــ «متروبولويس أمبير صوفيل» ـــــ للاستعلام: 01/204080