سلك كلّ منهما مساراته الخاصة، لكنّهما التقيا عند الدفاع عن المضطهدين في الأرض. ألان غريش دخل المعترك مشبعاً بالفكر الإنساني، أما ريجيس دوبريه، فآمن بالثورة وسار على دربها حتى أدغال أميركا اللاتينيّة، وأعاد الاعتبار في العقدين الأخيرين إلى الإرث الديغولي، قبل أن ينشغل في وسائط التواصل ثم في دراسة الظواهر الدينيّة. الكاتبان حاضران بأشكال مختلفة في العاصمة اللبنانيّة هذه الأيّام، من خلال كتابين يتقاطعان عند قضيّة العرب المركزيّة: «إلامَ يرمز اسم فلسطين؟» و«رسالة إلى صديق إسرائيلي»
عثمان تزغارت
يمثّل كل من ريجيس دوبريه وألان غريش، نموذجاً للمفكر اليساري الثوري المتحدّر من «التقليد الفرنسي». هناك نقاط تباين كبيرة في فكرهما ومواقفهما (وفي مسارهما السياسي أيضاً)، إلا أنهما يعدّان، بامتياز، التجسيد الحي لتقليد ثقافي يمتد بجذوره إلى الثورة الفرنسية. وهو يتمثّل في «سلطة المثقف» التي توازي «السلطة السياسية» وتتحدّاها، ولا تتردّد في التجديف عكس التيار، لتكون لسان حال الرافضين لـ «الأوضاع القائمة» والمدافعين عن حقوق المسحوقين والمهمّشين والمضطهدين في الأرض.
قد يجمع بين دوبريه وغريش، اليوم، أنهما ـــــ في راهن الحياة الفكريّة الفرنسيّة ـــــ من النماذج الأكثر إشراقاً وصدقية لـ«المثقف الفاعل» الذي يسعى إلى إيقاظ «ضمير العالم»، ويطمح إلى أن يكون «صوت من لا صوت لهم». وهما بذلك من الاستثناءات النادرة اليوم في بلد فولتير، حيث تعج الكتب وشاشات التلفزيون بـ«المثقفين ذوي الياقات البيض» (برنار هنري ليفي، ألان فينكلكروت، باسكال بروكنر...)، من «الفلاسفة الجدد» و«اليساريين التائبين» الذين رموا بنضالات شبابهم عرض الحائط، ليتحوّلوا إلى مبشرين بـ«جنة العولمة». الشيء الذي جعل منهم ـــــ حسب تعبير ألان باديو ـــــ «رجعيّين جدداً» ينشطون كتوأم فكري فرنسي لـ«المحافظين الجدد». إذ إنهم يبرّرون مزالق الساركوزية، كما فعل زملاؤهم الأميركيون بالنسبة إلى جرائم البوشية.
لكن نقاط تباين عدة تفصل بين فكر ألان غريش (1948) وريجيس دوبريه (1940). كل واحد منهما سلك مساراً سياسياً ونضالياً مغايراً. وقد أسهمت عوامل متعددة في تباين الخيارات الفكرية التي تبنّياها في شبابهما، وتحدّد على ضوئها مسارهما النضالي والسياسي لاحقاً. ولا شك في أنّ البيئة العائلية، أدّت دوراً بارزاً في رسم معالم المسار الذي سلكه كلّ منها.
ألان غريش وُلد وتربّى في قاهرة الأربعينيات، في وسط كوسموبوليتي متشبع بالأفكار اليسارية والثورية. والدته روث غريش كانت مهاجرة يهودية من أصل روسي، استقرت عائلتها في مصر خلال القرن التاسع عشر. وكانت ناشطة في الحزب الشيوعي المصري، خلال الأربعينيات. وقد كان والده بالتبني قبطياً مصرياً يحمل الأفكار اليسارية ذاتها. أما الأب الطبيعي لألان غريش، هنري كوريال، فقد كان أحد أبرز رموز اليسار الثوري في الخمسينيات والستينيات. وقد كان أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المصري في الثلاثينيات. لكن بعد حظر الحزب، أُبعد إلى إيطاليا عام 1950، بحكم كونه متحدّراً من أصول يهودية إيطالية. ولم يلبث أن انتقل إلى باريس، حيث أسّس منظمة «التضامن» الثورية السرية التي أدّت دوراً بارزاً في دعم حركات التحرر العالمثالثية، من حرب الجزائر إلى حركات التمرد اليسارية في القارة اللاتينية، وصولاً إلى القضية الأبرز التي ناضل من أجلها، وهي القضية الفلسطينية. مما أدى إلى اغتياله في ظروف غامضة، عام 1978، ضمن موجة اغتيالات (طاولت أيضاً الفلسطيني وائل زعيتر والجزائريين محمد بوديا والعيد سباعي...)، دبّرتها الموساد، بعد «عملية ميونيخ»، بالتواطؤ مع أجهزة استخبارات غربية عدة.
هذه البيئة الثورية التي نشأ فيها، جعلت ألان غريش ينخرط باكراً في النضال اليساري. يقول في «رسالة إلى ابنتي» (مقدمة الطبعة الجديدة من كتابه «إسرائيل، فلسطين: حقائق حول الصراع» ـــــ منشورات «فايار» ـــــ 2010): «أنتمي إلى جيل أتى إلى السياسة بشكل طبيعي، كما يأتي المرء إلى الحياة. في خضم حركات التحرر من الاستعمار في الستينيات، ثم خلال حرب فيتنام، كان البعد الفكري والسياسي هو المعطى الأهم في نضالاتنا. ولم يكن للانتماءات أو الأصول الدينية والعرقية لكل واحد منا أيّ تأثير في مواقفه أو أفكاره. فقد كنا نعدّ أنفسنا جزءاً لا يتجزأ من الإنسانية في بعدها الأشمل. وتلك كانت نقطة الجذب الأساسية التي أبهرتنا في الخطاب الأُممي الماركسي».
دخل ألان غريش المعترك النضالي مشبعاً بالفكر الإنساني الذي تربى عليه في تلك البيئة العائلية الكوسموبوليتية. ولعل ذلك ما يفسر لماذا اختار ـــــ بخلاف والده هنري كوريال، الذي لم يكتشفه إلا متأخّراً ـــــ أن يحمل القلم لا السلاح، مكتفياً بالنشاط الحزبي (التقليدي) ثم بالعمل الصحافي. فقد انخرط باكراً في الحزب الشيوعي الفرنسي، ونشط ضمن مكتب العلاقات الدولية للحزب، حيث ارتبط بصلات وثيقة مع الثورة الكوبية، ومع حركات التحرر في العالم الثالث. وفي عام 1979، استقال من الحزب الشيوعي، وتفرغ للعمل الصحافي في «لوموند ديبلوماتيك»، التي تولى رئاسة تحريرها حتى عام 2005، وجعل منها قلعة للفكر التقدمي المناوئ للإمبريالية، والمناهض لمدّ العولمة الزاحف، مع مطلع الألفية الجديدة.
أما ريجيس دوبريه، فقد وُلد في باريس لعائلة ميسورة. كان والده محامياً شهيراً. تلقّى ريجيس تربية كاثوليكية محافظة. وتجاوباً مع رغبة والديه، تابع التعليم التقليدي المخصص لـ«أبناء الذوات»، فدخل «دار المعلمين العليا» الـ Ecole normale Supérieure، وتخرج الأول على دفعته. لكنه لم يلبث أن تمرد على الإرث العائلي البرجوازي، فانتقل إلى دراسة الفلسفة في السوربون، وهو في العشرين، وانخرط في «اتحاد الطلبة الشيوعيين». ما تسبب في قطيعة عاصفة مع عائلته. في عام 1965، قرر الهجرة إلى كوبا، مسكوناً بأحلام الثورة. وإذا بالشاب الفرنسي يتعرف ـــــ وهو في الـ 25 من عمره ـــــ إلى تشي غيفارا، ويقرّر مرافقته في معركته الثورية الأخيرة في بوليفيا.
في كتابه الأشهر «ثورة داخل الثورة» (1967)، روى دوبريه كيف وقع في الأسر وتعرّض للتعذيب على أيدي عملاء الـ«سي آي إيه». بقي في السجن في بوليفيا أربع سنوات. وبعد إطلاق سراحه، انتقل إلى تشيلي. هناك ارتبط بصداقة قوية مع الشاعر الكبير بابلو نيرودا، الذي عرّفه إلى الرئيس سلفادور أليندي. وقد روى دوبريه جانباً من نقاشاته الثورية مع الرئيس المغدور به في كتابه «أحاديث مع أليندي» (1973). وبعد انقلاب أوغوستو بينوشيه في تشيلي، عاد دوبريه إلى باريس، حيث تفرغ للتأليف والعمل الأكاديمي. وأصدر في عام 1976، سيرة ذاتية عرفت رواجاً عالمياً، بعنوان «يوميات برجوازي صغير بين نارين وأربعة جدران»، الذي عرّبه الأديب الراحل سهيل إدريس، ونشره في داره «الآداب».
مع وصول اليسار إلى الحكم في فرنسا، سنة 1981، فوجئ قراء ريجيس دوبريه ومحبوه بقبوله منصب مستشار للشؤون الدولية في ديوان الرئيس الراحل فرنسوا ميتران. وهو الأمر الذي عدّه كثيرون تنازلاً غير متوقع من «رفيق غيفارا»، ولا سيما أنّ ذلك الانخراط المفاجئ في الإستبلشمنت الحاكم، جاء في الوقت الذي لم يكن حبر كتابه «نقد العقل السياسي» («الآداب»، 1986) قد جفّ بعد!
في عام 1985، استقال دوبريه من منصبه في «قصر الإليزيه» الرئاسي، ثم أصدر كتابه المرجعي «سلطة المثقف في فرنسا»، لكنه بدأ في مطلع التسعينيات، الابتعاد تدريجاً عن الفكر الماركسي الثوري، لحساب نزعة قومية ذات منحى ديغولي. وانعكس ذلك في عدد من أعماله، ومنها: «ضد التيار: في مديح المثل الضائعة» (1992)، و«ديغول، إلى اللقاء غداً» (1996)، و«قيم الجمهورية كما أشرحها لابنتي» (1998). وفي هذا السياق، أيّد ترشيح وزير الداخلية جان بيار شوفانمان للرئاسة عام 2002.
على صعيد العمل الأكاديمي، تتسم مؤلفات ألان غريش بنفَس نقدي مناوئ للفكر الغربي المهيمن. ومن أشهرها وأكثرها إثارةً للجدل كتاب مشترك أصدره مع المفكر الإسلامي طارق رمضان، بعنوان «أسئلة حول الإسلام» (2000). واحتل الإسلام أيضاً مكانة محورية في كتابين آخرين لـ ألان غريش، هما «الإسلام، الجمهورية والعالم» (2004)، و«تحديات العلمانية» الذي أصدره في مناسبة الذكرى المئوية لسن قوانين العلمانية في فرنسا (1905 ـــــ 2005).
أما ريجيس دوبريه، فقد توجّه، مع مطلع الألفية الجديدة، نحو دراسة الظواهر الدينية. أصدر في هذا الشأن كتاباً مرجعياً بعنوان «مسار الله» (2001). ثم أسّس في عام 2002، «المعهد الأوروبي لعلوم الأديان»، الذي يهدف إلى تأسيس مدرسة في العلوم الإنسانية تعنى بالظواهر الدينية، لإخضاع تلك الظواهر لأدوات البحث العملي الحديث. وتوالت بعد ذلك مؤلفات دوبريه المخصصة للظواهر الدينية، من «تعليم الدين في مدرسة علمانية» (2002)، إلى «ما يحجبه الحجاب» (عن الجدل بخصوص قانون منع الحجاب في المدارس الرسميّة في فرنسا ـــــ 2004)، مروراً بـ «النار المقدسة: دور العامل الديني» (2003).
لكن «النزعة الثورية» التي اعتقد كثيرون أن دوبريه تخلى عنها نهائياً، لحساب العمل الأكاديمي النخبوي والمتجرّد، لم تلبث أن استيقظت مجدداً، مع صدور كتابه «نداء إلى التقدميين الجدد في القرن الحادي والعشرين» (2006). وتأكد هذا التوجه لاحقاً من خلال كتابين حملا نقداً راديكالياً للفكر المهيمن في الغرب. جاء الأول بعنوان «البذاءة الديموقراطية» (2007)، بينما حمل الثاني عنوان «أسطورة معاصرة اسمها حوار الحضارات» (2007).
وإذا بـ«الثوري العجوز» يقرّر أخيراً العودة على خطى شبابه. إذ اشترك إلى جانب الراحل دانييل بن سعيد في تأسيس «الحزب الجديد المناهض للرأسمالية» في شباط (فبراير) 2009. ثم شارك في حملة «الجبهة اليسارية» التي أنشأها هذا الحزب في الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة.
والغريب أن القضية الفلسطينية ظلت مغيّبة طيلة 40 سنة، في كتابات ريجيس دوبريه ونضالاته. وإذا به يخصص لها في الفترة القصيرة الماضية، أربعة كتب خلال ثلاث سنوات! بعد «رجل أبيض في الأرض المقدّسة» (2008)، أصدر «لحظة تآخٍ» (2009)، ثم «فكاك» (2010)، وأخيراً «رسالة إلى صديق إسرائيلي» (2010). لكن المقاربة ذات الخلفيات الدينية غلبت في هذه الأعمال على النفَس الثوري المتوقع من مثقف يساري في مكانة دوبريه. في الكتاب الأول، مثلاً، يتحدث بحماسة غريبة عن «علمانية» المجتمع الإسرائيلي. ويتناسى كل جرائم الدولة العبرية، للتركيز على ما تشهده إسرائيل من دينامكية في مجال البحث العملي، مشيداً بأن نسب القراءة عند الإسرائيليين تضاهي الدول الغربية، فيما «الكتاب» (يقصد الكتاب المقدس) حلّ محل جميع الكتب في العالم العربي، إذ لم يعد أحد يقرأ غير القرآن! أما في الكتاب الثاني («لحظة تآخٍ»)، فيتحدث دوبريه عن حلم التآخي بين الأديان السماوية الثلاث، بسذاجة لا تصدّق من قبل مفكر من مصافه، متجاهلاً أن المشكلة في فلسطين ليست في تصادم أو الأديان السماوية تآخيها، بل في وجود محتل دخيل يفرض هيمنته واضطهاده على أبناء الأرض الأصليين، على اختلاف انتماءاتهم الدينية. وأخيراً في كتابه الأخير (راجع الكادر)، تكفي الإشارة إلى أن الصديق الإسرائيلي الذي يخاطبه دوبريه، ويعاتبه بنبرة ودية، ليس سوى إيلي برنافي «المؤرخ التقدمي» الإسرائيلي الذي كان من «دعاة السلام» على الطريقة الصهيونيّة، ومن أقطاب الرابينية... لكن ذلك لم يمنعه من أن يقبل أن يكون سفيراً لبلاده في فرنسا خلال فترة حكومة شارون! ولعل هذه المواقف المتحيزة التي حملت مؤلفات دوبريه الثلاثة عن فلسطين هي التي دفعت الدكتور عزمي بشارة في إحدى محاضراته في بيروت إلى اتهام «رفيق غيفارا»، بالانسياق وراء فكر «المحافظين الجدد»!
على النقيض من ذلك، لم يعرف ألان غريش ما عرفه دوبريه من تقلب سياسي وتذبذب فكري. لقد ظلّ يسارياً ثورياً متصلباً في مواقفه المعادية للإمبريالية، والمناصرة لحقوق شعوب العالم الثالث في التحرر والحياة الكريمة. كما أن القضية الفلسطينية احتلّت على الدوام مكانة مركزية في نضالاته وأعماله. أول كتاب أصدره عام 1988 (بالاشتراك مع المؤرخ دومينيك فيدال)، حمل عنوان «فلسطين 47، التقسيم المجهض». ثم أصدر الثنائي غريش/ فيدال كتاباً آخر بعنوان «مئة مفتاح لفهم الشرق الأوسط» (1996). وفضلاً عن عشرات المحاضرات والمقالات والتحقيقات الصحفية، خصّ ألان غريش القضية الفلسطينية بكتابين آخرين، هما: «إسرائيل، فلسطين: حقائق عن الصراع» (2001)، و «إلامَ يرمز اسم فلسطين؟» (2010 ـــــ راجع البرواز)، وهو عمله الأخير الذي يذكّر بعنوان كتاب ألان باديو المدوي «إلامَ يرمز اسم ساركوزي؟» (2008).


ألان غريش: آخر حروب المرحلة الاستعماريّة

إثر الحرب الدموية التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في كانون الثاني (يناير) 2009، برزت على الساحة الدولية موجة استنكار غير مسبوقة، لإدانة جرائم الحرب الإسرائيلية، والتنديد بـ«جبروت القوة» المسلط، على المدنيين الفلسطينيين العزل. أمام هذا الاستنكار العالمي، لجأت الدوائر الصهيونية إلى ردة فعل مغايرة: في السابق، كانت تسعى إلى التستر على الجرائم الإسرائيلية. أمّا وقد بات من المستحيل الاستمرار في إنكار تلك الجرائم، لجأ «أصدقاء إسرائيل» إلى إطلاق حملة مضادة. حملة ارتكزت على منطق يقول إنّ الفظائع التي حدثت في غزة، على بشاعتها، لا تمثّل استثناءً في عالمنا المعاصر، بل هناك ما يماثلها أو يفوقها في دارفور، والشيشان، وبرمانيا، والتيبت... من هنا، ينطلق «أصدقاء إسرائيل» في تساؤلهم: «لماذا التركيز على فلسطين من دون غيرها من بؤر العنف والتوتر حول العالم؟»... وعن هذا أجابوا بأنّ التضامن الدولي المتزايد مع الشعب الفلسطيني ليس سوى قناع، تتخفى وراءه مشاعر «كراهية اليهود» و«معاداة السامية»!
للرد على هذه الحملة الصهيونية التي كان أحد أبرز أقطابها الفيلسوف الفرنسي اليميني برنار هنري ليفي، يستعير ألان غريش من منظّر «اليسار الجديد» الفرنسي ألان باديو، عنوان كتابه المدوي «إلامَ يرمز اسم فلسطين؟» (LLL ـــ2010). يبرهن هنا، أنّ القضية الفلسطينية باتت في الوقت الراهن، انشغالاً مركزياً يجد صدى عالمياً، ويعني البشرية بأكملها. فهي بذلك شأنها شأن حرب فيتنام، في الستينيات والسبعينيات، والصراع مع الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، خلال السبعينيات والثمانينيات.
يرى هذا المحلل المراقب السياسي، أن أسباب تركيز العالم بأجمعه على ما يحدث في فلسطين، لا تعود إلى عوامل خفيّة تتعلق بـ«كراهية اليهود» أو «معاداة السامية»، بل إلى معطيات تاريخية وجيوسياسية ملموسة. ففي مطلع الألفية الجديدة، بات الصراع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي، الصراع الاستعماري الوحيد الموروث عن حروب القرن العشرين: شعب يواجه احتلالاً لأرضه منذ أكثر من ستين سنة. أما الاهتمام الكبير بالصراع العربي ــــ الإسرائيلي، فيعود إلى أن هذا الصراع، يمثّل نقطة التجاذب المركزية في صراع أوسع، هو صراع الشمال والجنوب. كذلك فإنّه يمثّل واجهة التصادم الرئيسية بين الشرق والغرب.
يخلص غريش إلى القول بأنّ جذور الصراع في فلسطين نشأت قبل الحرب العالمية الأولى، وصمدت أمام التحولات التي سببها انهيار الإمبراطورية العثمانية، ثم تفاقمت بعد الهزة العاصفة التي تركتها الحرب العالمية الثانية في الضمير الغربي. فقد استُعملت المحرقة النازية، على مدى نصف قرن، لكَمّ أي فم ينتقد إسرائيل. أمر حوّل فلسطين إلى بؤرة توتر مزمنة تستعصي على الحل، فقد استمر الصراع واحتدّ في خضم الحرب الباردة، ثم صمد أمام موجة التحوّلات التي أفرزها انهيار المعسكر الشرقي. وبالطبع، فإن العقدين الأخيرين من القطبية الأحادية الأميركية، زادا في الطين بلّة.
ما الذي يتغير الآن إذاً؟ يسأل غريش. ويجيب بأن بروز قوى دولية وإقليمية جديدة، مثل الصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، يمثّل بوادر عهد جديد، قد يكون إيذاناً بنهاية قرنين من الهيمنة الغربية على العالم. العالم أجمع يدرك أن طيّ هذه صفحة لا يمكن أن يكتمل إلا بإنهاء آخر حرب استعمارية أفرزتها الهيمنة الغربية في فلسطين. هذا التطلع العالمي، نحو إنهاء عهود الهيمنة الغربية، هو ما تمنحه فلسطين اسمها في الزمن الراهن!


ريجيس دوبريه: «صهيوني موال للفلسطينيين»!

مع الكتاب الرابع عن فلسطين، بدأت أوهام ريجيس دوبريه تتساقط. وإذا بأحلام «السلام» ودعوات «التآخي» الساذجة تتراجع، مفسحة المجال أمام غضب مدوّ. ففي «رسالة إلى صديق إسرائيلي» (فلاماريون)، يواجه «رفيق التشي» حقائق الصراع الفلسطيني ــ الإسرائيلي. ويعترف أخيراً بأن «الحرب على غزة كانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، بحيث لم يعد بإمكان الغرب أن يكتفي، بأداء دور موظف الحسابات المطالب بصرف الأموال اللازمة لإعادة إعمار ما تحطمه الحروب الإسرائيلية». ولا يكتفي بإدانة السياسات الغربية، بل يتوجه في الحديث أيضاً إلى الإسرائيليين. نجده يخاطبهم بنبرة غير مسبوقة من الصراحة وصفاء الرؤية: «لقد آن الأوان لإسقاط قناع النفاق المفروض علينا منذ سنين، لنطالبكم بأن تسمّوا الأشياء بمسمّياتها. لا تستعملوا بعد اليوم كلمة «استيطان» بل «غزو». لا تتحدثوا عن «نمو طبيعي» أو «مستوطنات غير قانونية»، بل قولوا صراحة إنه «تطهير عرقي» (...) وبدل استعمال مصطلحات «تجميد» المفاوضات أو «وقفها»، قولوا صراحة إنها فسحة ضرورية لمواصلة الاحتلال. وإياكم أن تتحدثوا عن سلطة وطنية فلسطينية، بل قولوا إنها حكومة محميّتكم في الأراضي الفلسطينية!
ويضيف صاحب «ثورة في الثورة» («الآداب»، تعريب إلياس سحّاب ــ 1983) إن فاعلية آلة الدعائية الإسرائيلية في مغالطة الرأي العام الغربي، تعود أساساً إلى براعتها في التلاعب بالمصطلحات. فهي لا تقول إنها تحاصر قطاع غزّة وتحوّله سجناً كبيراً، بل تعلن أنها قررت القيام بانسحاب أحادي الجانب... ولا تقول إن الحرب التي شنتها على غزّة تمثلت في إغراق المدنيين العزّل تحت وابل من النيران والقنابل، بل تتحدّث عن حرب غير متوازية! ونتيجة هذا التحايل، المليارات التي تحصل عليها إسرائيل سنوياً مساعدات غربية، فيما الطرف الفلسطيني يُخضع لمساءلات مهينة للحصول على ملايين هزيلة.
لكن هذه النبرة الشجاعة في المطالبة بإسقاط قناع النفاق عن الخطاب الغربي تجاه إسرائيل، سرعان ما تتراجع حين يجامل دوبريه الصديق الإسرائيلي الذي يوجّه إليه «الرسالة»، أي إيلي برنافي (سفير شارون السابق في باريس)، عبر اختراع مصطلح غريب إذ يصف الفيلسوف الفرنسي نفسه بأنّه: «صهيوني موال للفلسطينيين»! وإذا ببرنافي يتلقف الفرصة، ليقول في رده على رسالة دوبريه المنشور في الكتاب ذاته: «نعم هناك صهيونية موالية للفلسطينيين، بل أكثر من ذلك أؤكد لك أن هنالك «صهيونية فلسطينية»(!) تستلهم مُثُل الحركة الصهيونية وقيَمها، في تصوّر الدولة الفلسطينية التي تريد إقامتها إلى جانب دولة إسرائيل»! عند هذا الحدّ، قد يبدو كلام برنافي نوعاً من الهذيان الأخرق. لكن كل هذا التلاعب المصطلحات من السفير الاسرائيلي السابق، ليس سوى تمهيد لتوجيه سهام النقد المبطن إلى «صديقه» العزيز دوبريه بسبب ما يبديه في هذا الكتاب/ الرسالة من تفهم لتزايد مشاعر معاداة الصهيونية عبر العالم. يقول برنافي: «أكاد أقول إنني أؤيد كل كلمة جاءت في هذا الكتاب، حتى أنني من الممكن أن أوقعه باسمي. لكنني ألوم دوبريه على نقطة واحدة فقط تتعلق بإغفاله أن معاداة الصهيونية ليست سوى قناع يتخفى وراءه المعادون للسامية (...) فكراهية إسرائيل هي الصيغة العصرية التي ابتدعها هؤلاء للتعبير عن كراهيتهم اليهود، من دون الوقوع تحت طائلة القانونية»!
ترى هل قرأ ريجيس دوبريه رد إيلي برنافي قبل أن ينشره مرفقاً برسالته الغاضبة في كتاب واحد؟ إذا كان قد فعل ذلك، فلا شك أنه أدرك في قرارته أن صديقه الإسرائيلي يعدّ أحد أبرز خبراء الدولة العبرية في حرب المغالطات من أجل تشويه الوقائع والتستر على الحقائق...