التقط الآلاف أنفاسهم في بيروت، خلال اليومين الماضيين، ليسمعوا «سفيرتنا إلى النجوم» تؤدّي أبرز أعمالها مع زياد، ثم باقة مختارة من ريبرتوار الرحابنة... صوت مدهش في قدرته على التفريد والتنويع
بشير صفير
لم تكن حفلة فيروز الأولى (أوّل مِن أمس) في مجمّع الـ «بيال» عادية. كما أنّها لم تكن استثنائية فقط. بل أكثر من ذلك. كان لقاء فيروز مع الجمهور عبارة عن سلسلة مفاجآت، سببها الأوّل الضبابيّة التي لفّت تفاصيل الحفلة حتى اللحظة الأخيرة (وخاصةً ما خصّ البرنامج). أمّا المفاجأة الأكبر، فكانت فيروز. صوتها، أداءها وحضورها المتماسك كالعادة أمام بحر من الوجوه الشاخِصة إليها، المراقِبة لكل حركة وتفصيل.
جاء التنظيم عالي الدقّة والأناقة، نسبةً إلى السرعة القياسية التي جرت بها تحضيراتُ موعد بهذه الضخامة، ونظراً إلى الرمزية الحساسة جداً للحدث. لكن يبقى هذا اللقاء فنياً بالدرجة الأولى، بعيداً عن الشائعات والظروف المتشنجة التي سبقته (الصراعات العائلية).
نبدأ من برنامج الحفلة الفنيّ الذي أدّى أكثر من وظيفة. فالأعمال التي سمعناها أرْضَت مختلف الأذواق الفيروزية، مِن محبّي قديمها أو جديدها أو الاثنين معاً. هكذا حمل القسم الأول توقيع زياد الرحباني، إذ تناوبَت فيروز مع الجوقة على غنائه. الأغاني الآتية من عالم زياد (مسرحياته وألبوماته الخاصة)، نفّذتها الفرقة الموسيقية بقيادة هاروت فازليان، وراقبتها فيروز من الكواليس. ونقصد «أغنية البيانو»، و«راجعة بإذن الله»، و«بما إنّو»، و«عايشة وحدا بلاك». وطبعاً أدّت فيروز من جديدها مع زياد، «الله كبير»، و«قصة زغيري كتير»، و«ما شاوَرت حالي»، إضافةً إلى الأغنية التي منحت عنوانها للألبوم الجديد «إيه في أمل»، التي لم تغنِّها فنانتنا أمام الجمهور مِن قبْل. وكذلك مِن قديمها مع زياد، غنّت «سلّمْلي عليه»، و«كيفك إنت»، و«اشتقتلك»، و«عودَك رنّان»، فيما لم تقدّم شيئاً من أسطوانتي «... ولا كيف»، و«وحدُن».
غادرَت فيروز المسرح، وخرج الجمهور للاستراحة، وفي وجهه علامة استفهام واحدة: هل ستغني الأخوين؟ هكذا أتى الجواب نقياً، لا لبْس فيه، إذ لمّ تغنِّ إلا الأخوين، أو بشكلٍ أدق، الأخوين ومعهم الأخ الثالث إلياس. هكذا انفردت بأغنيات مستقلة، وتعاونت مع الكورس (الذي انفرد نادراً) في اسكتشات غنائية من مسرحيات.
كذلك فاجأت الجمهور بالقديم القديم، مثل «بعدَنا»، «حمرا سطيحاتِك»، و«يا ريت»، و«عالطاحونة»، و«الأوضة المنسية»، و«وطى الدوّار»، و«قصقص ورق»، وغيرها...

مع غياب زياد عن المسرح جاء أداء الأوركسترا تنفيذياً

هناك ملاحظة موسيقيّة أولى تطاول أداء فيروز وصوتها من جهة، وأخرى تتعلّق بالفرقة الموسيقية من جهة ثانية. صحيحٌ أنّ لمسات زياد كانت حاضرة بين توزيع وإعداد، غير أن عزف الأوركسترا بدا تنفيذياً، علماً أنها نفّذت مهمّتها على أكمل وجه وبشكل جيّد. فالحضور الخجول لعائلة آلات النفخ أضعَف التوزيع الأصلي للقسم الأول من البرنامج، فيما أتى تأثيره طفيفاً جداً في الثاني، إذا استثنينا الأعمال الشرقية البحتة التي أتت غنيّة بما فيه الكفاية.
أما فيروز، فانفردت دون سواها في مهمة الأداء، إذ لم تؤثر السنون في أسلوبها الخاص في التفريد والتنويع، والاستقلال بإيقاع الغناء الذي تليه فوراً ملاقاةٌ للإيقاع الموسيقي، وهو أجمل ما تحترفه فيروز في الغناء.
كل ذلك في ظلّ صوت لافت، لم يشوهّه العمر. فالغناء صحيح، ولم يخرج عن النص الموسيقي المكتوب. هكذا اقتصرت علامات الزمن على خسارة طفيفة في الطاقة، قد يكون مردّها إلى رهبة العرض الحيّ ـــــ إذ نستشعر نقيضها في الألبوم الجديد ـــــ قابلها مكسبٌ كبير في النبرة المعتَّقة التي ازدادت نضجاً، والطبقات المنخفضة التي زاد تمكُّن فيروز منها.


«عطل وضرَر»

المقطوعات الموسيقية التي زادت حفلات بيت الدين رونقاً، اقتصر حضورها في الـ«بيال» على مقدمتين موسيقيتين. السبب الأساسي هو غياب زياد عن الحدث، إذ إن هذا الأمر يبقى مِن اختصاصه دون سواه (وفي هذه الحال يجب وضْع أوركسترا كاملة في تصرُّفه). هكذا استُهِلّ اللقاء بموسيقى «عطل وضرَر» الشرقية المزاج، من ألبوم زياد مع لطيفة التونسية، «معلومات أكيدة». أما المقطوعة الثانية، فافتتحت القسم الثاني من البرنامج، وأتت لتؤكِّد ميزات الفرقة المناسبة للموسيقى الشرقية عموماً، وكانت عبارة عن إعداد لـ«ده فيلم أميركي طويل».