تعدَّدت المراحل في حياة فيروز الفنانة، فغَدَت أسطورة بحيوات عدّة وهي ما زالت بيننا. أسهمَت بهذا القدر الجميل مجموعة من الظروف والأحداث، إضافةً إلى «السبب» الأول في كل ذلك: صوتها. فمنذ بروز طاقتها الصوتية وحسن نبرتها وحسّها الفنيّ الفطري العالي، لم يحدث لفيروز إلاّ ما يخدم هذا الصوت ويوصل أفضل ما يمكن إنتاجه فنياً إلى الناس. كأنّ الله، بعدما نحت هذه الحنجرة، أرسل ملائكته لتأتي بأفضل فنانٍ إلى «الإذاعة اللبنانية»، ثم لتدلّ فيروز على طريق الإذاعة، ثم لتزوجهما، ثم لتتأكّد من أن موهبة ولدهما البكر كبيرة جداً. فعلاً، يستحيل أن يتكرَّر هذا «الحدث». إنّه ثالوث قدُس الفنّ اللبناني.ولدت نهاد وديع حدّاد في كنف عائلة متواضعة، وعاشت سنواتها الأولى في حيّ زقاق البلاط (بيروت). في حينه، لم يعرف الوالدان أنَّ «البنَيَّة» التي تبكي في السرير، ستصبح حجراً كريماً في الغناء العربي: فيروز. أحبّت الفتاة الصغيرة الموسيقى. وكانت تلتقط ذبذبات الأثير من عند الجيران، لتستمتع بالأغاني العربية الرائجة آنذاك.



"تراه" (استعادة لأغنية "Quisas")







كان عاصي الرحباني قد سبق فيروز، وأخاه منصور أيضاً، إلى «الإذاعة اللبنانية» التي تأسّسَت عام 1938. في شباط عام 1950، استعرض حليم الرومي، رئيس قسم الموسيقى آنذاك، الفنانين الذين جذبتهم الإذاعة للعمل فيها، وأسّس الفرقة الموسيقية والكورس التابع لها. في مذكراته، يقدّم الرومي نموذجاً عن لائحةٍ بأسماء الفنانين ودورهم في الفرقة. يذكر عاصي على الشكل التالي: «عاصي الرحباني: عازف كمان وبيانو ومؤلف وملحِّن، قديم». وفيروز (في رأس لائحة أعضاء الكورس): «نهاد حدّاد، مردِّدة ومطربة، جديدة». أما الرواتب فحُدِّدَت بـ225 ليرة لبنانية للعازف، و75 لأعضاء الكورس، باستثناء فيروز التي حدِّد راتبها بـ100 ليرة.
بين عشرات الأصوات البارزة، لمعت المطربة الصغيرة التي كان قد لحظها الرومي، قبل ذلك بقليل، في حفلة أناشيد تقدِّمها فرقة الأخوين فليفل في الإذاعة. (كان محمد فليفل قد اكتشف نهاد حدّاد أواسط الأربعينيات في حفلة مدرسية، وساهم في دخولها المعهد الموسيقي للدراسة). بعد الحفلة، طلب أن يسمع صوتها منفرداً، فغنت له «يا ديرتي» لأسمهان و«يا زهرة في خيالي» لفريد الأطرش.



"عتاب"







حليم الرومي أعطاها اسم فيروز، كما هو معروف، ولحّن لها أغانيها الخاصة الأولى (1950). بعد الرومي وبعض ملحّني الإذاعة، مثل خالد أبو النصر، توفيق الباشا، محمد محسن،... بدأت رحلة فيروز مع عاصي. أغنية «عتاب» سبقتها أعمال عدّة من عاصي لفيروز، لكن هذه الأغنية الجميلة شكّلت حجر الأساس، وأولى قطرات الينبوع الذي سيتفجَّر لاحقاً ولن يشحّ. ثم بدأت رحلة الأخوين رحباني مع فيروز بعد انضمام منصور، وذلك من خلال الأعمال الخاصة، لكن أيضاً، وخصوصاً من خلال إعداد الكلاسيكيات العالمية والأغاني الفولكلورية وغيرها.
مطلع 1955 قالت العروس: نعم. هذه العبارة ستغيِّر وجه الفنّ اللبناني إلى الأبد. بدأت الحياة الزوجية مع عاصي وبدأ معها المشوار الطويل مع الأخوين. اسكتشات، برامج إذاعية، مسرحيات غنائية، حفلات، أفلام... هكذا تأسّست خليّة النحل. فيروز كانت الملكة التي اجتمع حولها خلال عقود من الزمن، مغنون، وموسيقيّون، وممثلون، ومخرجون، ومنتجون. وفي ظلّ هذا الصخب المنظَّم، كان ابنها البكر، زياد (1956)، يلعب ويراقب ويتعلَّم وينتقد ويؤسِّس لشخصيته الفريدة. ثم بدأ يشارك في اللعبة، شيئاً فشيئاً حتى أصبح لاعباً مهماً بعد مرض عاصي (1972)، ثم اللاعب الأساسي بعد رحيل الأب المؤسِّس (1986).



"الفستان"







على مدى أكثر من عقدَيْن، كانت فيروز بطلة المشروع الرحباني غناءً وتمثيلاً. لا ضرورة للكلام عن فيروز المغنية التي نحت واعتنى وقدَّم صوتها الجوهرة أهم «الجوهرجيّين». من الأخوين رحباني أولاً، وبعدهما زياد، وفيلمون وهبي، ومحمد عبد عبد الوهّاب، وإلياس الرحباني، وزكي ناصيف، وحليم الرومي، ومحمد محسن، إلخ. لكنّ شخصية فيروز الممثلة قليلاً ما تُعطى حقّها. ففي المسرحيات، كما في الأفلام، لم تعرف أعمال الأخوين رحباني، من دون مبالغة، ممثلة بارعة بحجم فيروز. الثقة بالنفس عالية جداً. تعابير الوجه والجسد تترجِمُ الحبكة الدرامية والنص والحوارات والمواقف المفصليّة. وينسحب ذلك على أدائها في الحفلات أيضاً، فهي تضفي على المعاني الشعرية كما على الإيقاع واللحن ما يتطلب الموقف من تمثيل خفيّ يساعِد في إيصال المقصود من الأغنية إلى المستمع/ المشاهد. ويشكل ذلك جزءاً مهماً في أداء الأغنية، ودليلاً ثابتاً على إحساس المؤدّي بالعمل الفنّي الغنائي.
من شباك الغرفة الصغيرة في زقاق البلاط (راديو الجيران)، إلى مسرح المدرسة (محمد فليفل)، وبعدها استديوهات «الإذاعة اللبنانية» (حليم الرومي وعاصي وغيرهما)... فالمملكة الرحبانية (عاصي ومنصور) والعائلة الصغيرة (عاصي وزياد)، يصعب الإحاطة بحياة فيروز الفنانة. أو بحيوات امرأة قدّ لا تتكرّر تجربتها الفنية في الوطن العربي وربما في العالم. فإن وُجِدَ الصوت (ومعه الشخصية والموهبة والثقافة) يوماً، قد لا يجدَ الظروف المؤاتية له مِن مصادفات جميلة ومواهبَ كبيرة. والعكس صحيح. إذا لم نستطِع خلق نمسا القرن الثامن عشر من جديد، فكيف يتحقق مجيء موزار الثاني؟
ب. ص.