حازم سليمان
رسمت آنا بوغون (1968) خطّاً يفصل خريطة بريطانيا إلى قسمين. الخط الذي رسم بالأحمر، يمتدّ من لندن إلى اسكتلندا، بمسافة تعادل جدار الفصل العنصري الذي بنته إسرائيل في فلسطين. تريده الفنانة البريطانية أن يكون وقحاً و«بارزاً مثل ندبة»، إشارة إلى القسرية والتشويه والعنف ضد الطبيعة والتاريخ. عملها التجهيزي «كما يطير الغراب» (طبع رقمي على أوراق المحفوظات) ليس الحدث الوحيد الذي يعيد تقديم جراحنا في هذه التظاهرة العريقة. زائر «بينالي ليفربول الدولي 2010» سيجد نفسه أمامه أحزان القدس بأوجه مختلفة. فنانون من جنسيات متنوعة يقرأون القدس من منظور مدني بعد تنحية المسألة الدينية والسياسية. القدس بوصفها إحدى أكثر مدن العالم تعرضاً للعبث في بنيتها الجغرافية والديموغرافية. هل يدافع البينالي عن عروبة القدس، أو يتعامل مع إسرائيل كشكل من أشكال الاستعمار؟ لا يبدو الأمر كذلك. أدبيات المعرض تتناول القدس على أنها منطقة ساخنة، أرض صراع تاريخي بين أديان ثلاثة. وحتى لا نفترض سوء النية، يمكننا القول إنّ من الذكاء ألّا يحمل العمل خطاباً سياسياً موجّهاً، والتركيز على التزوير الذي تتعرض له حاضنة حضارية قلّ مثيلها في الأرضالأعمال المتنوعة التي تُعرض في البينالي، بعنوان «تحركات مستقبلية»، تضعنا أمام حالات التباس عدّة: الذاكرة وظلّها الراهن عند الفنانين الفلسطينين، أحلام وحميمية عند الفنانين العرب، المجهول عند أجانب لم يروا القدس بل يعرفونها مدينة مثقلة بالهموم والصراع والعنف.
اذاً، لا يبدو الحديث عن الوحشية الإسرائيلية ضرورة. النتائج التي ستقودنا إليها الأعمال تؤكد هذه المقولة، ولو كانت من دون نية مسبقة. في بحثها الذي لا يخلو من سخرية مبطنة، تذهب البريطانية سارة بيدنغتون إلى ما تسميه إسرائيل «متحف التسامح». تضعنا في «مرثية ماميلّا» (فيديو ـــــ 2009) أمام فجائعية ما يحدث في إحدى أقدم مقابر القدس الغربية، مقبرة «مأمن الله». هناك شيّدت إسرائيل متحفها على أنقاض مئات القبور والهياكل العظمية لشخصيات بارزة انتُهكت ورميت في مقابر جماعية وأماكن متفرقة. هذه العدوانية والميل المجنون لإلغاء الآخر ولو كان ميتاً، يحيلاننا إلى عدائية من نوع آخر. الفلسطيني جواد المالحي (1969) يدخل ممرات عقلية دقيقة. يمكن المدينة أن تصير عدائية أيضاً. عمله «عودة إلى برج بابل» (طباعة رقمية على أوراق المحفوظات ـــــ 2009) يتعقب طبيعة العلاقة البنائية بين المستوطنات ومخيمات اللاجئين. هكذا تبدو المستوطنات الإسرائيلية متوثبة وعدائية وناشزة في فضاء جامد وأحادي النظرة.
الفلسطينية المقيمة في لندن ألكسندرا حنظل (1975) تعاين في «من يوميات نوم وفطور» (فيديو) الخديعة التي تقدمها إسرائيل للعالم على طبق سياحي. كل تلك الصور الجميلة التي يعود بها السياح بعد تجربتهم لتفاصيل الحياة الإسرائيلية اليومية «الأصيلة» هي كذبة تنطلي على الجميع. لا تلجأ حنظل إلى الرومانسية لتأكيد الهوية الفلسطينية للبيوت التي تحوّلت إلى محطات سياحية لزوار القدس. وكذلك الأمر في عملها الفوتوغرافي «لا نوم من دون تصريح» الذي تختبر فيه فكرة المشي بوصفه فعلاً سياسياً، في مدينة تتحول فيها الحواجز القمعية إلى عادة يومية.

المهرجان البريطاني يترك للأعمال المشاركة أن تُدين الكيان العبريّ على طريقتها

ما دامت الحقيقة بشعة إلى هذه الدرجة، دعونا نلعب إذاً. اللعب هنا يأخذ سمة اليأس والسخرية السوداء التي تبلغ حد العبث. زميلنا الفلسطيني رؤوف الحاج يحيى (1973) يأخذنا إلى بلدته سلوان، لنعايش أناساً يحلمون ببضعة أمتار مستحيلة. إسرائيل تريد المكان خارج التاريخ. صمم لنا رؤوف لعبة كومبيوتر تفاعلية! كل ما عليك أن تحاول إنقاذ عشرات البيوت التي تسلّم أصحابها أوامر بالإخلاء والهدم. لكن مهما كانت يدك سريعة، لن يكون بمقدورك إنقاذ أكثر من بيت أو اثنين قبل انهيار كل شيء.
عمل رؤوف الحاج يحيى «متر مربع» (2009) هو مرثية بصرية حقيقية لإحدى أعرق قرى فلسطين، عند أسوار القدس القديمة. تبدو فكرة العمل مغايرة وطريفة ومؤلمة في آن. يريدنا يحيى التحول إلى أبطال افتراضيين. وخوض معركة وهمية خلف شاشة الكومبيوتر لن يكون صعباً أول الأمر، لكن حجم الفشل الذي سيتكرر مراراً يزرع في النفس خيبة حقيقية. البيوت التي ستتساقط أمامك وستضيع معها مصائر أصحابها، تضعك أمام حالة من الفقدان وربما الغضب. حتمية الفشل في هذا «العمل اللعبة» جزء من قيمة التجربة. وزجّ المتلقي في حالة من الفقدان يبدو أمراً لا مفرّ منه، خصوصاً إن كان المتلقي غير معنيّ بهذه البيوت التي تهدمها إسرائيل، تمهيداً لبناء «مدينة داوود» وهي متنزّه ترويجي لتاريخ إسرائيل.
يقول رؤوف: «هدمت إسرائيل مئات البيوت في سلوان. وسكانها يتراكضون بين البلدية الإسرائيلية والمحاكم للاحتفاظ ببيوتهم، ولا يحصلون إلا على قرار الهدم. ويوماً تلو آخر، تمسي الظروف المعيشية أكثر ضيقاً، بينما الناس يتلاعبون بالحياة والعقبات اليومية في بضعة أمتار مربعة»!


حتى 28 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي.
www.biennial.com