تدور المواجهة بين السينمائي السوري والانتحاري الذي قتله. قراءة للمسرحيّة التي قدّمها مجدي بو مطر، مع فرقته الكنديّة بين عمان ودمشق وبيروت
فادي سكيكر*
في كتابه «النقطة المتحوّلة»، يعرّف بيتر بروك المسرحية الجيدة كالآتي: «...إنّها سلاسل من الانطباعات. لمسات صغيرة واحدة بعد الأخرى، شذرات من المعلومات أو المشاعر في تتابع يستثير إدراك الجمهور. والمسرحية الجيدة ترسل الكثير من هذه الرسائل، وعادة ما ترسل العديد منها في الوقت نفسه، وعادة ما تتصادم، وتحتشد، ويتداخل بعضها في البعض الآخر وبالتالي تستثير الذكاء، والمشاعر، والذاكرة، والخيال جميعاً»... لا ريب في أن هذا التعريف ينطبق إلى حدّ بعيد على مسرحية «الثواني الـ 15 الأخيرة» التي تجوّلت أخيراً بين عمان ودمشق وبيروت. العمل الذي قدّمته فرقة Mt Space الكنديّة، يحمل توقيع المخرج اللبناني المقيم في كندا مجدي بو مطر. وينطلق من حادثة حقيقيّة، هي التفجير الإرهابي في أحد فنادق العاصمة الأدرنيّة عام 2005، وقد أودى بحياة عدد من الضحايا، بينهم السينمائي السوري مصطفى العقاد.
في أداء يجمع ممثلين عرباً وكنديين، تقف اللعبة الإخراجيّة عند تقاطع طرق بين ثلاث مدارس إخراجيّة: المسرح التوثيقي، والمسرح الإثنوغرافي، وابتداع المسرحيات الجديدة. قرب المسرحيّة من المسرح التوثيقي ينبع من كونها جلبت قضية تاريخية محددة إلى الخشبة. ورغم زخم التفاصيل المتخيلة لحياة الشخصيات، إلا أنّ ذلك لا يلغي عملية توثيق مسرحي لتفجيرات عمان. وعلى طريقة المسرح الإثنوغرافي، قدّمت الفرقة للجمهور عرضاً حياً لأحداث جرى استخلاصها من أبحاث المؤدّين السوسيولوجية، والنفسية، والتاريخية، اللازمة لبناء فعل درامي. ويعتمد الأسلوبان التوثيقي والإثنوغرافي، على تقديم أحداث في أزمنة وأمكنة متداخلة، بعيداً عن تقديم عقدة مسرحية تقليدية.
في عرض «الثواني الـ 15 الأخيرة»، تداخلت الأمكنة والأزمنة، وتنوعت المشاهد بين عمان وحلب والولايات المتحدة. كان الزمن المسرحي عائماً متنقلاً، بين طفولة بعض الشخصيات، ومراحلها العمريّة الأخرى. واستلهاماً لابتداع المسرحيات الجديدة، قدّم فريق العمل رؤية متخيّلة لما حدث أثناء تفجيرات عمان وقبلها. إذ يقوم العرض بدوره، بتفجير مجموعة من التقاطعات بين العام والخاص، بين التاريخ، والتأريخ الشخصي لحيوات أناس، أدّوا دوراً في التفجيرات أو كانوا بين ضحاياها.
من خلال المواجهة المتخيّلة بين مصطفى العقاد (اللبناني بديع أبو شقرا)، ومنفذ العمليّة رواد جاسم محمّد عبد (الكندي تريفور كوب)، حاول العرض زعزعة فكرة ما يمكن أن يكون حقيقة تاريخية، عبر مساءلة الواقعة وإعادة سردها. هكذا، سمح العرض

نظرة إنسانيّة تتغاضى عن الواقع السياسي الذي أنتج الكارثة

لنا بالتلصُّص على خطابات سردية للشخصيات، من دون الانجراف التام لمصلحة وجهة نظر معينة. العرض لا يقدّم مصطفى العقاد كشخصية معصومة عن الخطأ، وفي المقابل يتيح لرواد جاسم محمّد عبد سرد قصة حياته المفجعة، كمحاولة لفهم ما أوصله إلى ضغط الزناد.
على صعيد النص، مزجت الحالة السرديّة بالفعل الدرامي، فغالباً ما كانت الشخصيات «تحكي» قصة حياتها، وتنسحب بسلاسة للقيام بفعل درامي. على صعيد الشكل المسرحي، استخدم العرض الوسائط المتعددة، ووظّفها على مستوى جمالي يعكس حالة ومزاج المشهد أو الشخصية، من دون أن تبدو التقنيات مقحمة في جوّ العرض. امتاز العرض أيضاً بجمع المؤدين بين مختلف المدارس التمثيلية، إذ تراهم يندمجون بالشخصية حيناً، ويكسرون أحياناً الحالة التمثيلية لأداء رقصة أو حركة تجريدية. وغالباً ما اعتمد الأداء التمثيلي أسلوبية «الاستيكاتو» المبنية على التقطيع في إيقاع الحركة، المتنقل على نحو فجائي بين البطيء والسريع.
تبقى ملاحظة أخيرة هي أن النص الذي يحمل توقيع غاري كيرخام، بقي قاصراً عن مناقشة الأوضاع التي تفرز الظواهر الـ«إرهابية» وتحتضنها. لقد اكتفى المسرحي الكندي الذي كان صديقاً للعقّاد بوجهة نظر إنسانية بحت، من دون التطرق إلى الواقع الاجتماعي والسياسي الذي أنتج الكارثة.

* أستاذ في الجامعة الأردنيّة، مؤسّس «مختبر عمان المسرحي»