«جمهوركية آل مبارك» من الكتب السياسيّة التي عرفت اهتماماً متواصلاً، منذ نشره في عام 2005. عودة إلى الكتاب الذي صدرت طبعته الخامسة (المزيدة والمحدّثة) في القاهرة، وفيه يفكّك محمد طعيمه تلك الآلة الجهنميّة التي أدخلت بلد جمال عبد الناصر في كابوس التوريث، بتواطؤ من شخصيّات مرموقة باعت روحها للشيطان
سيد محمود
هل انتهى سيناريو «توريث الحكم» في مصر؟ سؤال لا يجيب عنه محمد طعيمه بطريقة قاطعة، وإن كان كتابه «جمهوركية آل مبارك» ينتهي الى إشارات واضحة تكشف تراجع هذا السيناريو لأسباب يكشف عنها تباعاً. لكن قبل ذلك، يرصد الصحافي المصري الصيغة التي تسرّب بها جمال مبارك إلى الحياة السياسية، وبات «شبح» خلافته لوالده إحدى أبرز النقاط الموضوعة على جدول أعمال النخب المصرية.
ما يميّز كتاب طعيمه، الذي لقي رواجاً لافتاً (طبعته الخامسة صدرت أخيراً عن «دار الثقافة الجديدة»)، أنّه يحفل بمعلومات وتحليلات خصبة، من مصادر متنوعة، لما عاشته مصر في العقد الأخير. لذلك، لا يعجب القارئ وهو يكتشف أن صنع الله إبراهيم، الروائي المولع بالتوثيق، هو الذي يقدّم للكتاب بحماسة لافتة، مشيراً إلى أنّ أهميته تأتي من كونه أول عمل يوثّق فضيحة التوريث، ويلقي الضوء على الكثير من تجلياتها وشخوصها.
يسجّل الكتاب، كما يرصد صاحب «ذات»، «أول ظهور لجمال مبارك في الإعلام في عام 1998 والخطوات التي صحبت إعداده للدور المقبل، بدءاً من لقبه كرئيس لجمعية «المستقبل» وعضويته المجلس الرئاسي المصري الأميركي، حتى السيطرة على الحزب الوطني والحكومة عبر لجنة السياسات التي اخترعها، وتفاصيل الصراع الذي نشب بين الحرسين القديم والجديد داخل الحزب الحاكم».
تلك المعلومات قد يعرفها اليوم القارئ المتابع لهذا الملف الشائك. غير أنّ الحقيقة التي لا يعلمها كثيرون أنّ المؤلف كان أول من خاض في هذا المستنقع، من خلال تحقيقاته المتتابعة في صحيفة «العربي الناصري»، في وقت كان الاقتراب فيه من العائلة الحاكمة من المحظورات. كذلك كان من أوائل من تناولوا دور زوجة الرئيس المتشعّب في الحياة السياسية، وربما أول من تحدث عن اللواء عمر سليمان الذي ما زال يُعدّ من الشخصيات الغامضة في الحياة السياسية، وأول من أشار إلى حديث جمال مبارك الشهير في كانون الثاني (يناير) 1999، واعتراف الأب في 1993 بمشاركة ابنه في شراء ديون مصر الخارجية وبيعها.
ولا يخفي طعيمه انحيازه طوال صفحات الكتاب إلى دور مصر القومي، اذ يربط بين تراجع هذا الدور وانتكاسات كثيرة عاشتها مصر في الداخل. في ظل حكم الأب ثم بالشراكة مع الابن ـــــ بتعبير المؤلف ــــــ تآكل الرصيد الاقتصادي والسياسي والإقليمي والاجتماعي والثقافي و«الانتمائي» للبلد. وإذا كان الأب لم يعِ معنى «رجل الدولة»، فالابن وفريقه يتصرفّان كأنها «مخطوفة»، متعاونين على النهب الفوضوي. إلا أنّ توابع شراكة الأب والابن المدمرة، حرّكت بعض أركان الدولة من داخل، للتحذير ثم الاعتراض المباشر الذي قيل إنّه أوقف محاولة تنفيذ التوريث في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008.
سيناريو يجني ثمار الانهيار الاقتصادي والسياسي
في الكتاب وقوف ذكي على عصب التحولات التي عاشتها مصر، وإشارة الى أصحاب الأدوار المعلنة والخفية في الترويج لحضور مبارك الابن. كذلك يقف عند المصائر التي أدّت إلى غياب بعضهم أو انتقاله إلى المعسكر المضاد، كما حصل مع أسامة الغزالي حرب أو «صانع العفريت» الذي بدأ شريكاً وانتهى معارضاً، يصف من يركبون قاطرة الابن بـ«العناصر الانتهازية»، علماً بأنّه كان أول من صنع حصان طروادة الذي شقّ به جمال مبارك طريقه إلى الحياة السياسيّة، ولخّص خطابه الإعلامي الذي يحتكر تبنّي الإصلاح المدني بعيداً عن الحرس القديم، ومؤسسات الدولة العقيمة.
ويكشف المؤلف الدور الذي أدّاه أستاذ العلوم السياسية علي الدين هلال الدسوقي الذي تولّى حقيبة وزارة الشباب لفترة قصيرة، تفرّغ بعدها لإعداد الابن وتأهيله ومدّه بالكوادر الموجودة في أمانة السياسات. وأبرز هؤلاء محمد كمال الذي يشغل منصب أمين التثقيف، وغيره من الكوادر الذين لا ينكر المؤلف كفاءتهم. لكنّ أصحاب تلك الكفاءات اختاروا أن يكونوا شهود الزور في تلك الصفقة «المشبوهة». علي الدين هلال الدسوقي دافع عن التحولات التي عاشها الحزب الحاكم في النزاع بين أجياله، مؤكداً أنّ الشباب يسيرون «نحو طريق ثالث كجسر بين الحزب بطرازه القديم والراديكاليين»، فيما تجاهل أنّ «المناخ السياسي العام ظل قمعياً». إلى جانب الدسوقي، يكشف طعيمه المولع بـ«النبش في الأضابير» (المسكوت عنه)، بطانة الإعلاميين الجدد الذين ساندوا خطوات مبارك الابن، رغم أن ممثّليهم عدّوا قضية التوريث «مفتعلة».
وانتهى المؤلف إلى الإقرار بأن الإعلام الحكومي والمستقل أيضاً لم يكن بعيداً عن الدفع بسيناريو التوريث. في الكواليس، كان ثمة صراع انتهى، وأفرز صحفاً موالية لمبارك الابن، وصحافيين داعمين لخطواته، معتبرين أنّ الموالاة شرط للصعود. كذلك يرى المؤلف أن صحف رجال الأعمال التي ظهرت اعتباراً من عام 2003 دعمت الفريق الذي قاده الابن داخل الحزب الحاكم، وعدّ نفسه إصلاحياً. والمنطق نفسه تبنّاه الممثّل عادل إمام الذي ناشد مبارك الابن «ترشيح نفسه للرئاسة في انتخابات ديموقراطية».
ويوضح طعيمه أنّ جماعات سياسية قائمة لا ترى مشكلة في وجود جمال مبارك بديلاً لوالده. ويحدد بدقة أشكال استجابة مختلف القوى السياسية للفكرة التي وجدت معارضة من الأحزاب الشرعية، فيما لاقت ترحيباً «حذراً» من جماعة الإخوان المسلمين التي طالب رجالها بمقايضة واضحة شرحها نائبهم حمدي حسن في برنامج «صباح دريم»، إذ أشار إلى رغبة الإخوان في الحصول على عشرات المقاعد البرلمانية «مقابل التخلّي عن شعار: لا للتمديد... لا للتوريث» الذي ترفعه قوى سياسية أخرى.
ولعلّ أبرز فصول الكتاب جاء بعنوان «دولة ما بعد 5 مارس»، وفيه يكشف المؤلف السيناريوات التي راجت إعلامياً لحكم مصر، في أعقاب الأزمة الصحية التي طالت مبارك الأب. يومذاك، ظهر جلياً أنّ وجوهاً جديدة قادرة على تقديم نفسها في هذا الموقع، وكان أبرزها الرئيس السابق لوكالة الطاقة الذرية محمد البرادعي. ويقرّ المؤلف في الختام بأنّ جمال وُرِّط منذ البداية في لعبة ليست له، سواء بورقة حزب «المستقبل» الموؤود التي صاغها أسامة الباز، أو بورقة تحرير النظام السياسي من العسكريتاريا، كأول حاكم «مدني» يعتليه منذ 1952، وفق «ترويجة» صاغها أسامة الغزالي حرب قبل انتقاله إلى المعسكر الضد.
لكن كل ذلك لا يمنع أنّ الخلاف ما زال قائماً بشدة على اسم الرئيس المقبل في بلد جمال عبد الناصر، ولا سيما أنّ المؤسسة الأقوى في مصر لها كلمتها التي لا يمكن تجاهلها. أمام تناقضات من هذا النوع، لم يكن أمام قطار التوريث سوى التراجع موقتاً بعدما فوجئ بأنّ هناك «قوة أخرى» في البلد. فـ«الأم» و«الابن» لا يعرفان «الشارع»، ولا يريانه أصلاً.