دراسات مفصليّة تناولت الحرب على العراق، وتقارير سياسية مهمّة، أسهمت في صناعة قرار الغزو، جمعها أمير دوشي في كتاب صادر من دمشق، ساعياً إلى وضع الاجتياح الأميركي في إطاره الفكري والاستراتيجي
أحمد ثامر جهاد
ستظلّ الحرب على العراق، بكلِّ المعايير، الحدث الأبرز في الشرق الأوسط والعالم في مطلع الألفيّة الثالثة، ليس فقط بسبب ما أحدثته من هزة كبيرة في نظام الأعراف والقوانين الدولية، بل لوضعها الطبيعة الأخلاقية للمنظمات الدولية ذاتها موضع تساؤل جدي. غزو الأساطيل الأميركية للعراق عام 2003، لم يكن حدثاً عابراً. وما بدا لبعضهم أنّ هدف هذه الأساطيل النهائي هو إسقاط نظام صدام حسين، صار بمرور الوقت نتيجةً عرضية. جوهر هذه الحرب سيبقى مرتبطاً على نحو صميمي، بعقيدة الولايات المتحدة الإمبراطوريّة ما بعد «غزوة سبتمبر».
يضعنا كتاب «بابل... أحلام المارينز ـــــ قراءة في ملف غزو العراق» (دار الينابيع ـــــ دمشق). في قلب هذا الحدث الاستثنائي. يضمّ الكتاب دراسات وتقارير ومقالات، عن ملف الغزو الأميركي للعراق، كتبها نخبة من المحلّلين والمختصين في شؤون السياسة الأميركيّة. وقد ارتأى معدّ ومترجم الكتاب أمير دوشي، أن يقسمه إلى ثلاثة أبواب أساسية. يقرأ الأول الإطار الفكري للحرب على العراق، عبر مفاهيم الدين والقيم الكونية والنفط، والثاني الإطار العمليّاتي للحرب والصراع بين المؤسسة السياسية والعسكرية. فيما يتناول الثالث ما أفضَت إليه تلك الحرب من نتائج، مع نظرة إلى مستقبل العراق والشرق والعالم.
بتعبير آخر، سيُمثِّل الدين العقيدة الملهمة والمتعصبة لإدارة بوش الابن، فيما تمثّل القيم الكونية، المحاكاة الشكليّة لنمط الحياة الأميركيّة، بكلّ ما هو معروف عنها. في المكان ذاته سيقف النفط أو «براز الشيطان» ـــــ كما يصفه بعض الاقتصاديين المتهكِّمين ـــــ في قلب صراع المصالح. ولن يكون أمام القوة العسكرية، إلا أن تكون اللغة اللائقة لحفظ تلك المصالح.
دوافع كولونيالية مموّهة خلف خطاب نشر الديموقراطية
يسوّغ دوشي اختياره لهذه النصوص دون غيرها، من بين آلاف الدراسات والتقارير التي تناولت الشأن العراقي الراهن، بكونها تضع القارئ أمام صورة الخطاب السياسي الأميركي للمحافظين، بما يمثّله من إنتاج وإعادة إنتاج لأحلام الهيمنة الإمبراطورية الأميركية. أحلام دأبت على تمويه الدوافع الكولونيالية، تحت طائلة حملات نشر الديموقراطية في مناطق التوتر. هذا إضافةً إلى محاولتها تأجيج النزاعات المحلية (وخصوصاً في البلدان النفطية)، وجعلها ضمن دائرة القضايا الحساسة التي تهمّ الأمن القومي الأميركي. لذلك، أصبح هناك من يبدي اليوم اهتماماً متزايداً بنوع النصوص السياسية التي نقرأها في «بابل... أحلام المارينز»، لكونها جزءاً أساسياً من الموجِّهات التي تترك تأثيرها في مراكز صنع القرار. كما أنّها مفصل أساسي في منظومة المعايير (الممهّدة، الداعمة، المعارضة) التي تتفاعل مع الوقائع على الأرض، ولا سيّما إذا تعلق الأمر بفهم ملف النزاعات الراهنة في المنطقة، وفي مقدمتها الملف العراقي.
في هذا الكتاب الذي اجتهد المترجم في اختيار مواده وتبويب فصوله، سنجد أنفسنا أمام تصورات مختلفة ذات أهمية، تناولها محلّلون وأكاديميّون وكتّاب معروفون مثل والتر راسل ميد، وريتشارد هاس، وآخرون... إضافةً إلى نصوص ذُيِّلت بأسماء أصحاب الشأن، مثل توني بلير، وكوفي عنان، وتشير بشكل أو بآخر إلى حقيقة أنّ الحرب على العراق هي ما حتّم حصول متغيّرات أساسيّة في علاقة أميركا بالعالم، وفي وسائل رعاية مصالحها في الشرق الأوسط على نحو خاص. فيما تذهب باقي المقالات إلى بحث اتجاهات السياسة الخارجية الأميركية في السنوات الأخيرة، تحديداً في عهد إدارة بوش الابن، إضافةً إلى قراءة ماهيّة القيم التي تحكمت في أداء الجمهوريين الذي اتسم، أكثر من غيره، بالتطرف واللاعقلانية في إطار تسويق فكرة «الحرب الصليبية». حرب المصالح السافرة تلك، التي باتت مقَودة بخطاب سياسي استباقي، تتطلّب الكثير من القوة والقليل من التردُّد. حتى في نظر حلفائها، باتت أميركا منذ الحرب على العراق، غير راغبة في الإنصات إلى الآخرين، بقدر رغبتها في المباغتة والمغامرة، وتمرير دروس البطل المنفرد الذي أمّن العقاب.
إذا كان ضرورياً التذكير بالتصور القائل بأنّ أرض الرافدين ـــــ بما تمثّله من وفرة خيرات، وتفرد جغرافي وعمق حضاري ـــــ ستظلّ تمثّل إغراءً متواصلاً للقوى الغازية، أياً كانت، كما أشار أمير دوشي في مقدمته، فقد يكون من المناسب الالتفات هنا إلى تصوّر آخر، مفاده أنّ جيوش الغزاة التي استباحت هذه الأرض، منذ عهود سحيقة، كانت قد غادرتها مضطرة، متخمةً كانت أو مهزومة.