التعبيريّة في «متروبوليس» على أنغام إلكترونيّةيزن الأشقر
جمهور السينما في لبنان على موعد مساء الأحد مع واحدة من المحطات الأساسيّة في تاريخ الفن السابع. إنّه فيلم روبرت فينه «عيادة الدكتور كاليغاري» (1920) الذي تعرضه صالة «متروبوليس أمبير صوفيل»، بدعم من «معهد غوته»، في نسخة 35 ملم مستحدثة، وبمرافقة موسيقية حيّة لفرقة «مونما» (راجع المقال أدناه). من دون أدنى شك، يعدّ هذا الفيلم الصامت من روائع السينما التعبيريّة الألمانيّة، وإحدى العلامات الفارقة التي مهّدت لما عرف بالأفلام السوداء، في هوليوود الأربعينيات، وسينما الرعب عموماًتعود السينما الألمانية الى زمن اختراع الكاميرا، والتباشير الأولى للسينما في أواخر القرن التاسع عشر، حين اخترع الإخوة سكلادونوفسكي النسخة البدائية من جهاز العرض السينمائي. لكنّ انطلاقتها الفعلية كانت بين انتهاء الحرب العالمية الأولى وصعود النازية. حفلت السينما التعبيرية حتى منتصف العشرينيات، بأسماء مثل روبرت فينه، وفريديريك ويلهيلم مورنو، وكارل بويزي، ثم فريتز لانغ، وأرنولد فانك وغيرهم.
نشأت الحركة التعبيرية في ألمانيا كرد فعل على المذاهب الانطباعية والطبيعية قبل الحرب العالمية الأولى، وامتدت إلى أنحاء أوروبا. وجاءت تعبّر عن علاقة مغايرة للواقع، في الرسم والأدب والمسرح، تعكس القسوة والخوف والقلق الفردي، وتطلق العنان للمشاعر المكبوتة والتهويمات بصورة عاطفية ديونيزوسية. وامتد أثر هذه الحركة ليشمل الفن السابع أيضاً. لم يكن سهلاً على السينما الألمانية التعافي بعد أجواء الحرب العالمية الأولى، لكن التضخم الاقتصادي الذي حصل في جمهورية فايمار مكّن صنّاع الفنّ السابع من اقتراض العملة الألمانية قبل انخفاض قيمتها سريعاً. هذه الفترة الاقتصادية التي عاشتها ألمانيا، أعطت دفعاً لإنتاج أفلام ذات كلفة منخفضة. كل ذلك أسهم في خلق أجواء مكّنت الحركة التعبيرية الألمانية من الازدهار، لتبلغ أوجها في برلين العشرينيات. فأجواء ما بعد الحرب سوداوية وكئيبة، والرغبة كبيرة في التعبير الإنساني ودفن الماضي. لكن التنافس مع أفلام هوليوود ذات الإنتاج الضخم، كان أمراً صعباً. هكذا، استبدلت التصاميم الباهظة بالرموز التعبيرية، والديكورات الخادعة، والرسم على الأرضيات والجدران، واللعب على الضوء والظلال... وانطلقت تلك الموجة السينمائية التي أحدثت، رغم قصر مدتها، ثورة يمكن رؤية آثارها ممتدة إلى السينما الحديثة حتى اليوم. في «عيادة الدكتور كاليغاري»، يمتزج الواقع بالهلوسة. منذ اللقطة الأولى، يضعنا روبرت فينه مباشرةً في عالمه الكابوسي المزعج. رجلان متفاوتان في السن يجلسان على قارعة طريق، يحذّر الأكبر سناً صديقه من الأرواح التي تسري في هذه المنطقة. تظهر فجأة امرأة بملابس بيضاء تسير أمامهما من دون أن تعيرهما أدنى اهتمام. ثم يخبر الراوي فرانسيس (فريديريك فيهير) وهو الرجل الأصغر سناً، أنّه صادف موقفاً مثيراً مع المرأة، لتبدأ رواية الفيلم. في قرية هولستينوال الجبلية الألمانية، يصل الدكتور كاليغاري (فيرنر كراوس) ليقدم عرضه المتجول المثير مع مساعده سيزار (كونراد فيت) الذي يتنبأ بالمستقبل أثناء نومه. بعد تصريح العرض من قبل آمر القرية الذي يُقتل بعدها في حادث غامض، يذهب فرانسيس برفقة صديقه ألن لمشاهدة العرض المدهش. هناك، يطرح فرانسيس سؤالاً على سيزار: كم سنة بقي له أن يعيش، فيجيبه بأنّه سيموت قبل فجر اليوم التالي. تتحقق النبوءة، وتمضي الأحداث الكابوسية تباعاً حتى نهاية الفيلم غير المتوقعة. إلى جانب نهايته المثيرة التي أصبحت علامة فارقة في السينما، ما يثير الدهشة في هذا الشريط حتى أيامنا هذه، هو احتفاظه بتأثيره كمثال أوّلي على سينما الرعب. إضافةً الى الحبكة المثيرة، يسهم الديكور التعبيري الورقي بصورة أساسية في صناعة

لم ينجُ الفيلم في زمنه من الرقابة التي أدّت الى تحوير فكرته الرئيسيّة

أجواء الفيلم السوداوية. وإذا كانت تحفة المعلم الألماني فريتز لانغ «M الملعون» (1931) التي جاءت في فترة ما بعد التعبيرية قد جمعت بين التصاميم الواقعية الباهظة والأساليب التعبيرية، فإن فيلم روبرت فينه «كاليغاري» يبدو بدائيّاً وبسيطاً. وقد استخدم أسلوب التضخيم، والتصوير المخادع للشوارع المائلة، والحجرات الضيقة، ولقطات الزوايا المستخدمة بكثرة، وصولاً إلى الظلال التي رسمت على الجدران والأرضيات... كل تلك العناصر والتقنيات صنعت بيئة شاذة تمثّل دوراً رئيسياً في رسم أحداث الشريط. ولا شك في أن الفيلم يحمل بعداً سياسياً أيضاً، إذ يقوم خطابه ضد السلطة وخداعها. السيناريو الذي كتبه النمسوي الشهير كارل ماير وزميله البوهيمي هانس هانوفيتز، لا يزال يثير خلافاً حول طبيعة شخصية كاليغاري ومحيطها السياسي الذي خضع لدراسات عدة. حتى في عصر السينما الصامتة، لم ينجُ الفيلم من الرقابة التي أدت الى تحوير فكرته الرئيسية، وتعديل المشاهد الأولى والأخيرة، بعدما تعرض الإنتاج لضغظ سياسي، خوفاً من أن يفهم الجمهور أنّ السلطة مجنونة. لكن رسالة الفيلم تبقى كما هي، وقد تبدو لنا أكثر من راهنة: تسليط الضوء على الجانب المظلم من الإنسان في هذيان وخداع وجنون.


«عيادة الدكتور كاليغاري»: 8:30 مساء الأحد، 14 ت2 (نوفمبر) ــــ «متروبوليس أمبير صوفيل» (الأشرفية/ بيروت). للاستعلام: 01/204080