حافظ الشيرازي... نشوة العاشقطهران ـــ محمد الأمين
قد يصعب على الإيرانيين الإكتفاء بيوم واحد، لتكريم أعظم شعرائهم على الإطلاق، خواجه شمس‌ الدين محمد حافظ الشيرازي (1325 ـــ 1390م). وإن كانت الجهات الثقافية الرسميّة، قد احتفت بالذكرى، من خلال سلسلة نشاطات، منها مهرجان دولي أقيم في مدينة شيراز أخيراً، وضم نقاداً وكتاباً متخصصين، إلّا أنّ منع المواطنين الإيرانيين من القدوم إلى مزار «الحافظية» في مدينة شيراز، أثار موجة من الانتقادت. إذ لا يمكن حصر الاحتفاء برمز أدبي وطني للإيرانيين، ضمن إطار أكاديمي بحت.
منذ صعود نجمه في إبداع روائع الغزل الفارسي، كان حافظ الشيرازي في صميم اهتمامات أهل الطرب، ومجالس العارفين على حد سواء... تأخذ أشعاره وشخصيته منحىً إشكالياًَ مضاعفاً، وسط الجدل بين تيارين: الأول حصر أشعاره ببعد عرفاني وصوفي، في حين سلّط الثاني الضوء على تمرده على الشريعة وفقهائها، واهتمامه بالبعد الحسي كدليل على نزعته الإلحادية.
النزاع على تأويل أعمال الشيرازي، لم يقتصر على بلاد فارس، بل شمل بلداناً كانت أشعار حافظ في صميم مشهدها الشعري والثقافي كما في شبه القارة الهندية. هناك، اعتُمد شعره في مجالس الذكر، ووظف لحقن الدماء، كما كان حاضراً في الحانات وحلقات الطرب أيضاً. وحافظت قصائد الشيرازي على حضورها المتواصل في الوجدان الشعبي الإيراني، حيث لم تعرف قطيعة على مرّ العصور. بذلك، لم يكن للدراسات الاستشراقية دور كبير في اكتشاف الشيرازي، وان كانت أول طبعة حديثة لـ «الديوان»، تمت في كالكوتا عام1791.
على الصعيد الأوروبي، ورغم أسبقية مستشرقين فرنسيين وانكليز في ترجمة قصائد الشيرازي، فإنّ «الديوان الشرقي للمؤلف الغربي» West-östlicher Divan الذي وضعه غوته، يسجل أرقى حالات الإعجاب والتواصل الإبداعي مع حافظ. وإثر قراءة الترجمة الالمانية الكاملة التي وضعها المستشرق النمسوي جوزيف فون هامر (1812)، كتب غوته: «إن مجموعة أشعار حافظ، أثرت فيّ تأثيراً عميقاً، ولم أكن قادراً على مقاومة هذا التأثير».
إن صعود التيارات الإيديولوجية والنزعات الحداثوية في المجتمع الإيراني منذ ثورة الدستور عام 1906، جعلا الصراع التأويلي على منجز الشيرازي الشعري، يتخذ طابعاً مبنياً على فكرة القطعية. فالتيار الحداثي، ممثلاً بالشاعر الإيراني المعاصر أحمد شاملو، ومثقفين قوميين إيرانيين، سعى إلى تكوين صورة عن حافظ، غير مرتبطة بالموروث والثقافة الدينية. إن الانتلجنسيا

كانت نظرته إلى العالم جمالية، تعبّر عن حالة قلق وجودي

الإيرانية في القرن العشرين، راهنت على شطب كل منجز ثقافي وأدبي وفني، مستلهم من التأثير الإسلامي. وتجدر الاشارة إلى أن أنصار هذا التيار، واجهوا، على الصعيد الأدبي، إشكالية كبرى تتمثل بكون الرافد الثقافي الإسلامي، يشكل اللبنة الأساس للأعمال الأدبية لغالبية مشاهير الأدب الإيراني، وعلى رأسهم الشيرازي. ومن جهة أخرى، سعى مفكرون إيديولوجيون دينيون إلى تأويل ديني مبالغ به لقصائد حافظ، وقراءة تشطب كل ما هو حسي ودنيوي منه. كلا التياران يرفض بشدة مشروع حافظ الشعري، في تأسيس مكانة لـ«المفارقة» في صميم اشتغالاته الكبرى. فهو يجمع بين البعد الديني، باعتباره الحاضنة شبه الوحيدة للبعد الميتافيزيقي من جهة، وبين السعي إلى الاستمتاع بالحياة من ناحية أخرى، وكلاهما من محظورات الفكر اليقيني دينياً كان أم إلحادياً.
تغنى الشاعر بالمحبة والتسامح والمساواة بين البشر، ونظم الشعر في حب الإنسان لأخيه الإنسان. ولم تكن قراءة حافظ للوجود عقائدية، بقدر ما كانت جمالية تخضع للاضطراب الروحي أو القلق الوجودي بلغة اليوم. التطور الذي شهدته الساحة النقدية في إيران، في تقويمها للشيرازي، يمثل استجابةً متأخرةً للرؤية القائلة بجمع الناحيتين الحسية والصوفية. وهي رؤية بحاجة إلى تجذير على المستوى النقدي قبل أن تندثر في مواجهة تراكم هائل من القراءات الإيديولوجية.