الشاعرة السوريّة المقيمة في كندا جاكلين سلام، أشعلت النقاش حول مكانة المرأة في المملكة («الأخبار»، 26 ت1/ أكتوبر). ننشر هنا رسالة بديعة كشغري زميلتها السعوديّة التي كسرت جدار الصمت، وشهادة زميلتنا مريم عبد الله

تاريخ طويل من الموت السري



إنّه عصر العولمة بامتياز: تنطلق فعاليات «سوق عكاظ» في موقعها الأصلي، بين مكة والطائف، فتلتقط الخبر جاكلين سلام الشاعرة السورية المقيمة في كندا، ذاك النصف القصيّ من شمال الكرة الأرضية، وتكتب عن تفاصيل الأحداث. بل تتماهى معها عن بعد، حدَّ المعايشة والمقاربة التي تحاور وتتساءل وترصد موقفاً منصفاً ليس للمرأة فقط، بل للثقافة والإبداع.
قرأت مقالها المنصف والموسوم «سوق عكاظ شعر المرأة عورة»، وأود أن أعقب بصفة من كان حاضراً بشحمه ولحمه، أو بالأحرى من كانت تشهد الحدث بتفاصيله الدقيقة بأبعادها الزمانية والمكانية ذات الصلة العميقة بأغلال الإرث والمفاهيم الاجتماعية.
لقد سبقت تلك الأمسية شحنات عالية من التوتر النفسي. ذلك أنني أصررت على موقفي باعتلاء «المنصة» والإلقاء بمواجهة الجمهور من الجنسين في خيمة عكاظ الكبيرة، مع حاجز يفصل بين الحاضرين حسب «الجندر». وكما ذكرت، فالزميلة الشاعرة زينب الأعوج لم يتح لها ذلك، بل فرض عليها عريف الأمسية أن تلقي نصوصها من مكان جلوسها، حيث لم تكن هناك منصة حتى مواجهةً لجمهور السيدات!
كان الذكور يتصدرون المقام ويتموضعون أعلى المنصة بكل ارتياح، متجاهلين ما تتعرض له زميلتهم (الشاعرة أو المحاضرة) من تحجيم لكينونتها الإنسانية والثقافية وهي تقدم دورها الأدائي، إلى درجة أنّ صوتها قد لا يسمع بوضوح، فضلاً عن ارتباط الأداء الإبداعي بالصوت والصورة بالنسبة إلى المتلقي. لذا كانت مبادرتي أشبه بالمعركة حقاً، كما عنونت بعض الصحف السعودية: «بديعة كشغري تنتصر للخنساء وتكسب معركة المنصة في سوق عكاظ»!
وهذا يحيلنا إلى مفهوم «المنبر» بحمولاته المرتبطة بالتعبير عن الرأي من جهة، وبأسلوب الأداء من حيث التبليغ والمواجهة التي تتكئ على «الموقف الظاهر»، لا على الضمير المستتر في محاورة الآخر. كأن «المنبر» هنا يضحي معادلاً للهوية، وما توجسُنا منه إلا توجساً من اعترافنا بالمرأة على أنها «هوية». ولعل ثقافة الصمت، أو اللا هوية، التصقت بالمرأة في ذاكرة المجتمع العربي عموماً، و«السعودي» خصوصاً، على مدى عقود!
في تلك اللحظات الحاسمة أو الدقائق العشر التي سبقت الأمسية التي شاركت فيها، كان لا بد من أن أقرر لمن سأنتصر: للشعر مادةً إبداعية أم للموقف المرتبط بهويتي وكينونتي الإنسانية أولاً والثقافية ثانياً؟ حسمت الموقف بالخروج من ثقافة الصمت، فهذا من شأنه أن ينتصر للشعر فعلاً وثقافة
أيضاً. وبعد جهد ومداولة مع المنظمين، كنت أقرأ من المنبر في مواجهة الجمهور من الفئتين في الخيمة المنقسمة الى قسمين لا يخلوان من «فصل عنصري»، واضح كما أشارت جاكلين في مقالتها.
سلسلة من المفردات كانت تتراءى أمام عيني في تلك اللحظة: مفردات لغوية محملة بشحناتها الدلالية المرتبطة بالمنبر والمرأة، وتاريخ طويل من الموت السريّ. إنها المعرفة مقابل النكرة، الحضور مقابل الغياب أو التغييب، الضوء مقابل العتمة، الثبات مقابل العثرة، وأخيراً ضمير المتكلم مقابل ضمير الغائب.
مع تحيات بديعة كشغري (جدة)

مشهد ثقافي ناقص عقل



ما حدث في «سوق عكاظ» هو قطرة في بحر المحافل الثقافية السعودية التي باتت تتحول إلى مهازل، خصوصاً حين يحاول بعضهم، من باب المساواة، أن يشرك فيها النساء. قبل «سوق عكاظ»، أُحرقت خيمة «نادي الجوف» الثقافي بسبب مشاركة الشاعرة حليمة المظفر مع شاعرين آخرين. وتلقّى رئيسه تهديداً بالقتل، مع إصدار قرار يمنع الاختلاط كلياً في المعارض والأمسيات الثقافية في تكريس لفصل عنصري ينحصر وجوده في إسرائيل.
تُمنع الفنانات في المملكة حتى من افتتاح معارضهن الشخصية، كما حدث في معرض زهراء المتروك. فيما مُنعت شاعرة معروفة في المنطقة الشرقية، من زوجها الشاعر الملتزم، من المشاركة حتى بصوتها في الأمسيات. بل ارتأى أن يصعد هو المنصة ويبدأ بإلقاء قصائدها وصولاً إلى قصائده! وحين أبديت استنكاري، أجابتني «ما بتعرفي العوايل المحافظة يا مريم؟ بتمنى أدعوك مرة لأمسية نسائية لتسمعيني».
تغييب المرأة وتهميشها ليسا جديدين في المجتمعات البطريركيّة الذكوريّة. ولن ينتهي الوضع المأسوي في السعوديّة عبر الكليشيهات والدعايات الجاهزة. سلوك «شاعر المرأة والحريّة» شوقي بزيع خير دليل على ذلك! يوم يجرؤ أحد هؤلاء الشعراء الفحول على رفض «جائزة عكاظ» باسم الحريّة، عندها فقط يمكننا أن نحلم باختراق جدار الصمت!
مريم عبد الله (القطيف)