strong>«البارجة بوتمكين»: السرّ في المونتاج«أيها البحّار لا تطلق النار على أخيك البحار». المعلّم السوفياتي يدعو المسحوقين إلى الاتحاد ضدّ جلادهم، في عمل طبع تاريخ السينما بأسلوبه الفنّي المبتكر وخطابه السياسي. مساء اليوم يستعيد الجمهور اللبناني هذه الرائعة في افتتاح مهرجان «صور ثوريّة»، مع مرافقة حيّة للمؤلفة اللبنانيّة جويل خوري

يزن الأشقر
منذ ولادة الاتحاد السوفياتي، اتخذت الفنون منحى جديداً، وأصبحت السينما إحدى أهم الوسائل الفنية باعتبارها وسيطاً ممتازاً لنشر البروباغندا السياسية. وكان فلاديمير لينين من أوائل الذين وعوا أهميّة الفن السابع في خدمة مبادئ الثورة البولشفية، ما أعطى زخماً فريداً لصناعة السينما السوفياتية. بسرعة صار هذا الفنّ جماهيريّاً، وذا رسالة سياسيّة واضحة، وبات في خدمة العقيدة الاشتراكيّة حيث أنيطت به مهمة صناعة أساطيرها الجامعة. هذا الازدهار سبقته مرحلة أولى، قبل تدفّق الدعم وتكوّن التقنيين والممثلين، شهدت إنتاج أفلام وثائقية وتعليمية ذات طبيعة «تثقيفية» حسب القوانين الجديدة للواقعية الاشتراكية.
هذا المنظور الجديد للسينما الروسية تطوّر بفضل المخرج والمنظّر دزيغا فيرتوف في أفلامه الوثائقية، وتوجّهه المضاد للدراما الخيالية الذي أدى لاحقاً إلى طرده من «استوديوهات سوفكينو». ثم جاءت الثورة السينمائية التي أطلقها المخرج الروسي سيرغي آيزنشتاين، وتتجلّى في تحفته الصامتة «البارجة بوتمكين» ( 1925) التي يشاهدها اليوم الجمهور البيروتي في نسخة مستحدثة، وبمرافقة موسيقيّة حيّة للمؤلفة الشابة جويل خوري (راجع المقالة أدناه)، في افتتاح تظاهرة «صور ثوريّة». يُعدّ هذا الفيلم من العلامات الأساسيّة في تاريخ الفنّ السابع، بأسلوبه المبتكر في المونتاج حسب نظريات آيزنشتاين، وبخطابه الثوري الداعي إلى تضامن المسحوقين والمستغلّين والفقراء، وتوحّدهم في مواجهة جلادهم.
مذبحة «درج أوديسة» تمثّل ذروة دراميّة وفكريّة وجماليّة في الفيلم
هذا الفيلم الذي غيّر وجه السينما إلى الأبد، يقوم على فكرة بسيطة. هدف آيزنشتاين كان كسب انتباه الجمهور وتعاطفه، ومحاولة بناء رابط عاطفي مع الفيلم وأبطاله، خدمةً لمحتواه السياسي. ومثل معلمه ليف كوليشوف، آمن آيزنشتاين بقوة المونتاج بوصفه «عصب السينما». هكذا، استنتاجاً من تجارب كوليشوف الشهيرة في المونتاج، نجح آيزنشتاين في حل «مشكلة السينما» كما وصفها، عبر التلاعب بعواطف المشاهد. آمن آيزنشتاين بالمونتاج، وعرض نظرياته بطريقة بناء المشاهد السينمائية المتوازية عبر تصادمها لتوليد الانفعالات، كما في مشهد شهير هو مذبحة «درج أوديسة».
وتطبيقاً لنظرياته في المونتاج، أخرج آيزنشتاين ثاني أعماله الطويلة «البارجة بوتمكين» الذي يعدّ إحدى أهم التحف السينمائية، وأهم فيلم بروباغاندا على الإطلاق. يبدأ الفيلم الذي تدور أحداثه سنة 1905 في ميناء أوديسة، باقتباس من «خطة معركة سان بطرسبورغ» للينين بجزئه الأول الذي حمل عنوان «رجال وديدان»، إذ يعلن بحّاران ضرورة مساندتهما لإخوانهما العمّال، وتستمر الحبكة في أجزاء الفيلم الخمسة، باحتجاج البحارة على حساء مصنوع من اللحم الفاسد، إلى تمردهم على ضباط السفينة القيصريين... فالحداد الجماعي الذي يعلنه سكان أوديسة، ثم مشهد السلالم وصولاً إلى الجزء الخامس والأخير من الفيلم.
في الجزء الرابع من الفيلم بعنوان «درج أوديسة»، تقع أحداث المذبحة في مشهد يُعدّ الأهم والمثال الأوضح على طريقة آيزنشتاين الثورية وقتها في المونتاج. بينما يتصاعد التوتر، يأخذ سكان الأوديسة في هبوط السلالم فيما يتحرك جنود القيصر بردائهم الأبيض خلفهم بطريقة منظّمة. نستطيع رؤية لحظات الخوف والتوتر على أوجه الجموع في لقطات مقرّبة. يبدأ إطلاق النار، ويدبّ الذعر بالناس ويأخذون بالفرار والتساقط... يستخدم آيزنشتاين طريقته في المونتاج هنا بشكل بارز لاستدرار القدر الأكبر من عاطفة المشاهد. تركض الأم مع طفلها الصغير نزولاً على الدرج، فيقطع المشهد على كتيبة الجنود يطلقون النار، ليقطع مرة أخرى لنرى الطفل يقع مصاباً من دون أن تلاحظ والدته. وتستمر المشاهد على هذا المنوال متنقلة بين بكاء الطفل، وذعر الأم، واندفاع الناس، وعودة إلى الأم حتى مأساة مقتلها ببرودة. بناء التوتر والترقب هذا هو نتيجة بناء المشاهد بطريقة المونتاج تلك، مشهداً فوق مشهد حتى بلوغ الذروة.
موسيقى الفيلم تتمتّع بأهمية أيضاً. بالنسبة إلى استخدام الموسيقى في الأفلام، يعود تاريخها إلى الأيام الأولى للسينما الصامتة، إذ كانت الأعمال الموسيقيّة تعزف على نحو مواز للشريط، منفصلة عنه، متزامنة مع أحداثه، لتؤدي دوراً في التأثير على طريقة تلقّي المشاهد للعمل السينمائي... آيزنتشاين على وجه الخصوص، رأى أهمية كبرى في الصوت، وأعلن في فترة لاحقة أن استخدام الصوت مع الفيلم يمثّل قوة وأهمية ثقافية للعالم. وكما هي الحال في الأفلام الصامتة في تلك الفترة، يعزف الموسيقيون أحياناً مع الفيلم كمثال مبكر على الحفلات الموسيقية السينمائية.
لا شك في أن عرض هذه التحفة في نسخة مرمّمة 35 ملم، يمثّل موعداً ثقافياً أساسيّاً في المدينة، يعيد الاعتبار إلى السينما كفنّ هو خلاصة إنجازات تقنيّة وجماليّة وفكريّة، وثمرة المشاريع الكبرى التي قام عليها القرن العشرين.