يقدّم لوران موفينيي في روايته صورة أكثر تعقيداً لمجنّدي «حرب الجزائر» الذين طالما تناولتهم الدراسات بسطحيّة
ياسين تملالي
يتوهّم مَن يقرأ الفصل الأول من «بشر» (Des hommes) للروائي الفرنسي لوران موفينيي (منشورات مينوي ـــ باريس) بأن القصة هي حكاية معاناة الفرنسي برنار في مسقط رأسه وما دفعه ثمناً لاختلافه عن غيره. أحداث الفصول التالية تجري بعيداً عن ريف فرنسا، بل في ريف الجزائر، هي «فلاش باك» يسلط ضوءَ الماضي على هذا المهمّش العنصري. يتقمص رابو ـــــ أحد أقارب برنار ـــــ جلد الراوي ويغوص في أعمق ماضيهما المشترك، إبان ما يسمّيه الفرنسيون (ربما لكثرة حروبهم في العالم) «حرب الجزائر» وما يطلق عليه الجزائريون مسمّى أكثر موضوعية هو «حرب الاستقلال». ترسم هذه العودة إلى تاريخ قريب بعيد صورة مريعة «للتجربة الجزائرية» لمئات الآلاف من الشباب الفرنسيين ممن ـــــ كبرنار أو رابو ـــــ وجدوا أنفسهم يستبدلون معاولهم بالبنادق، ويخوضون حرباً قذرة ضد فلاحين شديدي الشبه بهم، حولتهم إهانات الاحتلال إلى متمردين لا يبخلون على أعدائهم بشيء مما يجابه به المستعمَرون المستعمرين.
تتعاقب فصول هذه «التجربة الجزائرية»، وتتواتر أهوالها بين اغتيالات وتعذيب وقصف للقرى، فتتباين مواقف المجندين مما يؤمرون به من فظائع: أغلبهم يساق كقطيع، وقليل يرفض التجرد من إنسانيته باسم الدفاع عن «فرنسا الأبدية». وبالتوازي مع توالي أحداث مأساتهم ومآسي ضحاياهم، يتكثف بورتريه برنار لنكتشف أنه لم يكن أحد قرابين وهم «الجزائر بالفرنسية» فحسب، بل كان في بداية خدمته، شاباً متعاطفاً مع الجزائريين. كقروي يدرك صلابة علاقة الإنسان والأرض، فهم برنار ثورة من حوّلهم الاستعمار إلى شبه شحاذين في أرض أجدادهم. هكذا تبدأ مسيرة هذا الفلاح بالتماهي مع «الأعداء»، لكنه ينقلب عليهم عندما يكتشف أنهم قتلوا أحد رفاقه ومثّلوا بجثته، فيلتحق بجيش الجلادين.
بفضل «بشر»، أصبح لمجندي «حرب الجزائر» بورتريه أكثر تعقيداً واكتمالاً من معظم الدراسات التي تقسمهم قسمين: أقلية من

فهم ثورة من حوّلهم الاستعمار إلى شحاذين في أرض أجدادهم

المناضلين، وأغلبية من الشباب غير الواعي بأنّه وقود حرب استعمارية. بفضل رواية موفينيي، ندرك حقيقة شبه بديهية: نظرات هؤلاء الجنود إلى الثورة كانت تختلف باختلاف الأماكن التي أدوا فيها خدمتهم وتباين أصولهم الجغرافية. لم يكن ينظر إليها بالطريقة نفسها لدى مَن كانوا يخدمون في جبال حافلة بالمخاطر، ومن كانوا يقضونها مستمتعين بمباهج المدينة، ومن ولدوا في باريس أو مرسيليا. تتغذى هذه الصورة الجماعية بما تراكم من معارف سياسية وسوسيولوجية عن هذه الشريحة من المجتمع الفرنسي من دون أن يحول هذا العمق المعرفي نص موفينيي إلى رصد علمي بارد لفترة حاسمة في تاريخ الجزائر المعاصر. بفضل هذا العمق، وبفضل أناته في سبر سيكولوجيا شخوصه، لا تشبه «بشر» تلك الإدانات السهلة «للعنف أيّاً كان مصدره» متناسية سبب النزاع الرئيسي أي الوضع الكولونيالي، الذي يُعد فيلم «العدو الحميم» لفلوران إميليو سيري مثالاً بليغاً
له.
نجحت «بشر» في أن تعيد إلى دائرة الإنسانية مجنّدي «حرب الجزائر»، من دون تبرير عنفهم بعنف خصومهم. نجحت في أن تذكّرنا بأن الجلادين، كالشرفاء، جميعهم بشر، لم يعد لهم سوى الصمت دواءً لجراح ذاكرتهم.