بعد «الدواحة» و«الساتان الأحمر»، أنجزت رجاء عمّاري فيلمها الروائي الثالث الذي يحكي هجرة امرأة تونسيّة إلى فرنسا. تتوقع المخرجة التونسيّة أن تنجز نصّ الشريط في العام المقبل، على أن تبدأ تنفيذه مع منتجة أفلامها درّة بوشوشة. ورغم تركيزها على عوالم المرأة، تحذّر من اختصار تجربتها إلى مستوى واحد، حصريّ: «أفلامي تتطرّق إلى الحياة، لا إلى حياة المرأة. ولا أعتقد أن هناك مشاكل تتفرّد بها المرأة من دون أن تعني الرجل والعكس بالعكس... ثم، هل تعتقد أن هناك نموذجاً واحداً يمكن الاتفاق عليه للمرأة التونسية مثلاً؟». ما زال فيلمها الأخير «الدواحة» (2009) يتنقل من مهرجان إلى آخر، ويثير الجدل أينما حلّ. حين نسأل صاحبة «الساتان الأحمر» عن السوداويّة التي تخيّم على الشريط، واستكشافه قضايا الجسد والكبت والعلاقة بالآخر، تسارع إلى التأكيد أنّه «ابن بيئته، لكنه يتناول حالة لا يجوز تعميمها». ثم تردّ على صحافة بلدها التي شنّت حملة على الفيلم بحجّة أنّه لا يصوّر الواقع. وتذهب عماري بعيداً إذ تقول «الواقع لا يهمّني، والأفلام التي تدّعي الواقعية لا تعنيني ولا تعجبني... ما يشغلني هو البحث عن الشخصيّات الغريبة».
«الدوّاحة» الذي جاء بعد سبع سنوات على «الساتان الأحمر»، حصل على جائزة الإخراج في الدورة العاشرة من «مهرجان بيروت الدولي للسينما» آخر الصيف. وأشادت لجنة التحكيم بـ«تصويره الهادئ والمحكم لناحية الجوانب المستترة والمهمشة في حياة ثلاث نساء ـــــ امرأة تونسية وابنتاها ـــــ يعشن في عزلة عن العالم الخارجي، وفي سكن مخصّص للخدم في منزل مهجور»...
السينمائية الشابة (1971)، ما زالت غير محصّنة ضدّ النقد الذي يقف لها بالمرصاد مع كل تجربة جديدة. «الأمر نفسه حصل مع فيلمي السابق»، تقول بنبرة استنكار. لهذا ربّما، يبقى هاجس «مواجهة» الصحافة حاضراً في معظم إجاباتها، علماً أنّها تتبرأ من تلك التهمة: «لو كنت أفكر في ما ستقوله الصحافة والنقد، لما تقدّمت خطوة واحدة، ولعجزت عن تصوير مشهد واحد».
يروي الفيلم واقع نساء يعشن على هامش الحياة. لكنّ «عزلة الشخصيّات، لا تمثل الواقع التونسي في تصوير المرأة ضحيةً لمجتمع ذكوري يضطهدها، لأن المرأة مظلومة في مكان ما، لكنها ظالمة أيضاً. من هنا، لم أختزل المسألة إلى مجرّد صراع بين الجنسين، بل مضيت أبحث عن قصّة أكثر تعقيداً». أجيال تتابعت والظلم أكمل حلقته، فالأمّ ربّت ابنتيها بطريقة ظالمة. مما ترك أثراً كبيراً في نفس عائشة (حفصية الحرزي) التي نكتشف في نهاية المطاف أنها ابنة أختها التي حملت بها جرّاء علاقة خارج الزواج، فسُجّلت عائشة على أنها الابنة الثانية للأم التي كانت تعمل في القصر قبل أن يهجره سكّانه.
تؤكد عمّاري خصوصيّة عائشة، الشخصية الأساسيّة التي تريد التخلّص من السطوة والقسوة النسائيّة والخروج إلى الحرية، في وقت فرض عليها فيه أن تظل في عالم الطفولة، خوفاً من أن تكبر وتسعى وراء رغباتها ونزواتها، فإذا بها مسجونة في عالم الطفولة. ينطلق الشريط بمشهد يدور في الحمام، وينتهي بمشهد مماثل. وتنقلب الأحداث عندما تصل سلمى مع حبيبها لتمضي بضعة أيّام في قصره، فتكتشف عن طريق المصادفة هذا المخبأ السرّي أو السرداب الذي تعيش فيه النساء الثلاث، ويفرض عليهن عدم الخروج منه خوفاً من أن يفتضح أمرهن. في مواجهة الوافدة الجديدة، تشعر عائشة لأوّل مرّة بالحنان الذي لم تلقَه من أمّها وجدّتها.
تقول عمّاري: «أردت أن أركّز على الصراع الذي تعيشه البطلة بحثاً عن أنوثتها من اللحظة الأولى، عندما تدخل الحمام لتنزع شعر قدميها بشفرة، وهي آلة حادة، تدل على حضور الرجل وغيابه في آن معاً». وتشير إلى أن «الحمام هو المكان الذي تعزل فيه الشخصيات نفسها عن العالم الخارجي، لأنها قادرة أن تتصرف بارتياح وطبيعيّة، من دون ضوابط ولا قيود، ثم ترتدي القناع مجدداً في لحظة خروجها».
ينتهي الفيلم بثلاث جرائم قتل: الأولى ترتكبها والدة عائشة، إذ تتخلص من سلمى التي تحاول الهرب والعودة إلى واقعها. ثم تذبح عائشة والدتها وأختها التي تكتشف لاحقاً أنّها أمّها الحقيقيّة. هكذا تصل البطلة إلى الحريّة، التي لم تجد إليها سبيلاً آخر. هل هذا الفعل التراجيدي، والخيار الراديكالي عموماً، هو الطريق الوحيد للحريّة، ولرفع الظلم والتسلّط، في مجتمعاتنا؟ «ليس بالضرورة ـــــ تجيب عمّاري ـــــ التحرّر في فيلمي السابق «الساتان الأحمر» مرتبط بالرقص، وبنحو استعراضي مضيء». وتضيف: «الشخصيّات المثاليّة لا تعجبني، لذا أبحث عند الإنسان عن الجوانب الخفية والمعتمة والمظلمة».
ونستعيد هنا مع عماري، تجارب سينمائيين توانسة سبقوها إلى صناعة أفلام تحكي عن واقع المرأة وتدافع عن قضاياها... كالمخرجة مفيدة التلاتلي في فيلمها «صمت القصور» (1995). وتتوقّف عند أفلام «مهمّة» عن الشخصيّات النسائيّة برؤية مخرجين رجال من بينهم النوري بوزيد.
ماذا عن السياق الدرامي لأفلامها التي تصفها بالخياليّة؟ «لا أتعامل مع السينما التي تعكس الواقع. قيل لي إنّ حياة بطلة «الساتان الأحمر»، تشبه حكاية نجمة روسيّة... وعمدت في «الدواحة» إلى الاستعانة بالأساطير والحكايات المتخيّلة. حياة البطلة فيها ملامح من شخصيّة «السندريللا»، والأحداث تدور في قصر تحديداً». وتعترف المخرجة بأن السوداوية التي تطغى على «الدوّاحة» ربّما تكون أبعدت عنه فئة من الجمهور. «الناس في تونس بات ذوقهم مكيّفاً حسب مواصفات الأفلام التجاريّة. في الحقيقة لا أعتقد أنّني حقّقت فيلماً نخبويّاً».
وتستدرك عمّاري بأنّها ليس لديها شيء ضد السينما التجاريّة، وإن كانت من القائلين بضرورة وجود أفلام ترضي الجميع. تتذكّر هنا أن فيلم فريد بوغدير «حلفاوين ـــــ عصفور السطح» شهد في الصالات التونسيّة إقبالاً كبيراً. وحين نكرّر على مسامع صاحبة «الدوّاحة»، بعض الاتهامات التي وجّهت إليها بحشر المشاهد الجنسية المجانيّة في الفيلم بغية استقطاب الجمهور، تضحك عمّاري: «لا أفهم معنى عبارة «جنس مجاني». الأمر يتعلّق برؤية إخراجيّة ودراميّة. هذا كلّ ما في الأمر». أما اختيار العنوان الفرنسي للفيلم ـــــ «الأسرار» ـــــ فترجّح المخرجة أنّه يستند إلى خلفيّات تسويقية وتجاريّة. لكن العنوان الفرنسي مناسب بمعنى ما، لأن الفيلم يحمل أسراراً كبرى، تتكشّف عنها الأحداث تباعاً.
أخيراً، حين نسألها عن واقع السينما التونسية، لا تبدو رجاء عماري متفائلة. هي لا ترى حلّاً قريباً للأزمة السينمائيّة في تونس، وخصوصاً أنّ دعم الدولة لثلاثة أفلام روائيّة طويلة بتمويل مشترك مع جهات أوروبيّة في السنة ليس أمراً كافياً. وتضيف بأن حال السينما التونسيّة مشابه لحال السينما اللبنانيّة والمغربية، إذ إنّ تمويل آخر أفلامها كان من أربع جهات انطلاقاً من تونس، ثم سويسرا وفرنسا، إضافة إلى مساعدة جزائريّة ضئيلة. أضف إلى ذلك تهميش السينمائيين الشباب، وعدم توافر فرص لإبراز إبداعاتهم... فكيف يمكن تونس أن تشهد والحالة تلك، نهضة سينمائية جديدة؟


تجربة قد لا تتكرّر

حتّى الآن، تقتصر علاقة رجاء عمّاري (الصورة) بالتلفزيون، على تجربة يتيمة. فقد أنجزت ً وثائقياً، بعنوان «على آثار النسيان» (2004) الذي يدور حول فترة الاستعمار، وأنتجته «شركة مصر العالميّة». لكنّ عماري تعترف بأنّها تكره التلفزيون وقيوده، ومشاكله الإنتاجية. وتضيف: «أفضّل تقديم رؤيتي في ساعة ونصف الساعة فقط، إضافة إلى كوني غير معنيّة بأن أنال إعجاب الجمهور بأيّ ثمن... يهمّني أن أحتفظ بحريّتي الإبداعيّة، كي أقول ما أشاء. ومن يجد نفسه في ما أقدّم، فليتابع أعمالي».